ما بين القاهرة ودمشق

2022.11.18 | 05:42 دمشق

دمشق والقاهرة
+A
حجم الخط
-A

لا يمكن للسوري الذي يعيش في القاهرة أن يتمكّن من تحييد المقارنات والمقاربات بين القاهرة ودمشق، ذلك أن كل ما في القاهرة يمكنه أن يذكرك بدمشق، وكل ما فيها أيضاً يمكنه أن يجعلك مدهوشاً من مساحة الاختلاف بينهما. ليس الأمر فقط في الفارق بين حجم المدينتين ومساحتهما وامتدادهما، وليس فقط في الفارق بين تعداد سكانيهما. الأمر يتعدى الجغرافيا والديموغرافيا ليدخل في عمق المجتمع وهويته وبنية تفكيره الجمعية.

نحن أمام عاصمتين عربيتين تعتبران من أقدم مدن العالم، عاصمتان عريقتان كلتاهما محملتان على إرث حضاري كبير، وكلتاهما عانتا من احتلالات تاريخية قديمة وحديثة، وكلتاهما أيضاً يمكن وصفهما بعاصمتين إسلاميتين، كلتاهما تملكان نهراً يتغنّى به الشعراء (الفارق مهول طبعاً بين النيل وبردى حيث يبدو بردى بمثابة ترعة من ترع النيل)، كلتاهما تشاركتا في صنع النهضة العربية في أوائل القرن الماضي حين هاجر الكثير من الشوام (حين كانت دمشق درّة بلاد الشام وأكبر مدنها) إلى القاهرة، عملوا في الصحافة والفن والأدب والصناعات المختلفة جنباً إلى جنب مع المصريين، حتى أن التاريخ اعتبرهم مصريين من أصول شامية.

كلتا العاصمتين خاضتا حروباً قومية خاسرة وكلتاهما تتغنيان بانتصارات شعاراتية لا وجود لها على أرض الواقع. كلتاهما أيضا دخلتا في موجة الربيع العربي وهزم فيهما شر هزيمة.

وكلتا العاصمتين دخلتا في مشروع جمال عبد الناصر الوحدوي (ما زال المصريون يطلقون اسم الإقليم الشمالي على سوريا والجيش الأول على الجيش السوري)، وكلتا العاصمتين مركزيتان من حيث وضع كل الثقل المؤسساتي والثقافي والفني فيهما, وكلتاهما شربتا من نفس كأس الاستبداد والفساد والمحسوبيات وتجريف المجتمع وتدمير الطبقة الوسطى وتسليط المرجعيات الدينية الرجعية لتصبح هي بديلاً ملائماً لما تريده أنظمة الاستبداد من تراجع لدور الفكر والثقافة والتعليم والوعي التنويري الذي سوف يؤدي إلى مطالب مجتمعية وسياسية واقتصادية.

كلتا العاصمتين خاضتا حروباً قومية خاسرة وكلتاهما تتغنيان بانتصارات شعاراتية لا وجود لها على أرض الواقع. كلتاهما أيضا دخلتا في موجة الربيع العربي وهزم فيهما شر هزيمة.

إذاً، تاريخياً وحاضراً لا تبدو الفروقات كبيرة بين مسار العاصمتين، وحين نحكي عنهما فإننا نتعامل معهما كأنموذجين عن كامل الدولتين. إذ ثمة عادة كرستها مركزية العواصم العربية في التعامل مع العاصمة بوصفها صورة عن حال البلاد بأكملها، وبوصفها هي الحاضنة لكل إرهاصات المجتمع في تقدمه وتراجعه.

أوّل ما يلفت النظر في القاهرة هو حالة التكافل المجتمعي الشعبي التي تساعد الكثير جداً من البشر على العيش والاستمرار في الحياة، وهذا النمط من التكافل ليس وليد العقد الماضي (حيث ازدياد الأسعار بشكل غير مسبوق كحال معظم دول العالم بعد كورونا والحرب الأخيرة)، التكافل الاجتماعي في القاهرة تراه في صور كثيرة، كأن ترى في الأحياء الراقية صناديق نظيفة معلّقة على مداخل العمارات مخصصة لوضع الطعام الزائد بعلب نظيفة ومقسّمة مع زجاجات ماء نظيف للمحتاجين وعاملي النظافة والأطفال المشردين وأبناء السبيل، أو أن تجد مراكز التسوق المنزلي الكبرى تخصص جزءاً من مربحها اليومي لصناديق التكافل الاجتماعي المنتشرة بكثرة في القاهرة، أو تخصص وجبات طعام لعمال النظافة وأفراد الشرطة والمتسولين.

لا يتنمّر أحد في القاهرة على الفلاحات اللواتي يبسطن الخضار والفاكهة على الأرصفة في شوارع القاهرة الكبرى ويجهزنها للطبخ للسيدات العاملات، ويتزاحم المشترون عليها ليس لأنّ أسعارها أرخص من السوق أبداً، بل لأن جزءاً من الثقافة الشعبية المصرية هو تشجيع أصحاب الأعمال الصغيرة والفردية، فلا ترى أحداً يناقش فلاحة بأن يطلب منها تخفيض سعر الطماطم قليلاً، بل يدفع السعر بكل ترحاب. طبعاً من طرق التكافل الاجتماعي أيضاً طقوس الأعياد ورمضان وانتشار الجمعيات الخيرية والمستشفيات المجانية للفقراء (وفي أغلبها مملوكة لأفراد وليس للدولة).

هناك الكثير مما يحكى عنه إيجاباً في القاهرة عن التكافل الاجتماعي، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى فشل الحكومات المتعاقبة على وضع الخطط أو الاستراتيجيات اللازمة لإيجاد حلول للأزمات الاقتصادية والعوز والفقر وتأمين الشيخوخة والخ.

لا أتذكّر قبل 2011 شيئاً من هذا في دمشق، طبعاً يلعب هنا عامل الكثافة السكانية دوراً كبيراً في إبراز هذا النوع من السلوك الاجتماعي لصالح القاهرة، لكن هل لم يكن يوجد في سوريا فقراء قبل 2011 كما يتم الترويج دائماً؟ الحقيقة هي أن أطراف دمشق كانت تعج بالمناطق العشوائية حيث الفقر كان يعيش ويخلف ويتكاثر دون أن يعرف به سوى ندرة من النخب السورية الفكرية والاقتصادية.

مُنع الحديث في سوريا عن الفقر لسنوات طويلة جداً وكأنه عدو، ومُنعت أفلام وثائقية صوّرت مناطق العشوائيات في دمشق، ومُنعت الجمعيات الخيرية بأعذار لها علاقة بالسياسة والتمويل طبعاً ورُبطت كلها بمؤسسات النظام، ولم نتعب أنفسنا، نحن المقيمين في العاصمة من أبناء الطبقة الوسطى التي كانت تنهار شيئاً فشيئاً أيضاً في طرح السؤال عن مصير الطبقة المجتمعية الدنيا إذا كانت الوسطى تنهار. ولكي نكون منصفين فإن بعضاً من التكافل كان يتم خفية، كي لا توقفه سلطة الدولة الأمنية، وكي لا يصبح عادة منتشرة "يعتاد عليها الفقراء فيركنون إلى وضعهم" كما قرأت ذات مرة في مقال صحفي اقتصادي سوري عبقري. والغريب أن السوريين الذين كانوا يزورون القاهرة كان يحكون عن ظاهرة التسوّل الواضحة فيها، رغم أن الظاهرة نفسها في دمشق كانت أكثر انتشاراً منها في القاهرة بالقياس إلى الكثافة السكانية لكل منهما.

هذا يطرح تساؤلاً عن الفرق بين تلاحم الشعبين المصري والسوري في الأزمات المعيشية اليومية، وهل هو مرتبط بالبنية الاجتماعية لكلا المجتمعين؟ السوري الذي يعيش في القاهرة سوف يكتشف مركزية مصر كدولة ووطن وهوية للمصريين جميعاً، لا يجعل الخلاف السياسي بين المصريين يظهر هويات مخفية عابرة للوطن الكبير، الكل مصري ولا يملك هوية سوى الهوية المصرية (أحياناً قليلة تظهر الهوية الدينية قبل المصرية بسبب إيديولوجيا جماعة ما أو بسبب الجهل الذي يربط وجود مصر بوجود الإسلام، كذلك بما يخص العروبة والعرق الأفريقي) ثمة توهان أحياناً بالهوية الثانية، لكن الانتماء لمصر واحترام الهوية المصرية والعلم المصري.

المؤسسات الراسخة في القدم التي رسخت معها الهوية العامة للشعب وألغت كل ما له علاقة بالهوية العائلية أو القبيلة عبر اعتماد اسم الأب كلقب في الأوراق الرسمية بدلاً من اللقب العائلي القديم يجعل من القاهرة أكثر المدن مدنية في سلوك سكّانها اليومي وفي تعاملاتهم الرسمية والعادية رغم كل محاولات الترييف والتشوية التي طالت وجهها المديني والمدني، في القاهرة تجد مواطنين يعانون من كل ظواهر الاستبداد، لكنهم مواطنون في وطن اسمه مصر يتشرفون بحمل اسمه ويباهون بهذا الاسم ويمدحونه بدون رياء أو كذب أو تزلف.

في سوريا لم نكن مواطنين، كنا مجرّد رعايا تعيش في مجتمع لا هوية مشتركة له، كنا ننتمي إلى عوائلنا وقبائلنا وعشائرنا ومذاهبنا وطوائفنا وأدياننا، لا إلى الوطن، قلما تفاخر أحد منا بسوريته، نتباهى بانتماءاتنا إلى العائلة الفلانية أو تلك. أو إلى المدينة الفلانية أو تلك..

في سوريا لم نكن مواطنين، كنا مجرّد رعايا تعيش في مجتمع لا هوية مشتركة له، كنا ننتمي إلى عوائلنا وقبائلنا وعشائرنا ومذاهبنا وطوائفنا وأدياننا، لا إلى الوطن، قلما تفاخر أحد منا بسوريته، نتباهى بانتماءاتنا إلى العائلة الفلانية أو تلك. أو إلى المدينة الفلانية أو تلك، ومع أول محاولة للمطالبة بالمواطنة 2011 بدأت الهويات الحقيقية المختبئة تظهر وتسود وتصبح هي المتن الرئيس لوجود السوريين بينما الوطن السوري هو الهامش، هذا يفسر كيف يمكن أن تتحوّل ثورة إلى حرب أهلية على الأرض وفي النفوس، ويفسّر أيضاً كيف انقسمت العائلات وانقطعت أواصر أسرية وصداقات نهائياً، ويفسّر التهديدات بالقتل التي كانت تصل إلى الكثير ممن آمنوا بالثورة وبشّروا بها من عائلاتهم وأبناء مذاهبهم، ذلك أن الثورة حفزت لديهم الخوف من فقدانهم للهوية الأساسية التي يملكونها: العائلة أو المذهب أو الدين إلخ.

فهم في العمق لا يؤمنون بالوطن إلا على مستوى الشعارات ولم يعرفوا معنى المواطنة، والمتمرد منهم على تلك الهوية هو خائن للعائلة أو للمذهب أو للهوية التي يتشاركها معهم، هو يستحق النكران والتبرؤ، وربما الموت لخيانته جماعته المفترضة التي هي الوطن بالنسبة لهم. وهو الفرق الكبير والجوهري بين القاهرة ودمشق والذي يمكن أن يضيء قليلاً على الفرق بين الظواهر الكبيرة الأخرى في المجتمعين رغم أنه، كما أسلفنا، مسار العاصمتين تاريخياً لطالما كان متشابهاً ومشتبكاً.

كلمات مفتاحية