ما بين إيران وأميركا وسائر الأنظمة: نحن الضحايا دوماً

2020.01.04 | 18:03 دمشق

images_25.jpg
+A
حجم الخط
-A

في عز انتفاضة المواطنين العراقيين، سعياً لطموحهم البديهي ببناء دولة المواطنة والعدالة والحرية، المستقلة حقاً عن المشروعين الإيراني والأميركي في آن واحد، قررت "الميليشيات" (السلطة الفعلية) تخريب العراق وتدميره على رؤوس أهله. قررت قتل المدنيين العزل والتنكيل بشبان وشابات الانتفاضة المدنية السلمية. كما قررت في الوقت نفسه افتعال "عمليات" موضعية ومتنقلة ضد القواعد والمنشآت والمصالح الأميركية استجلاباً لـ"العدو" وتدبير حرب تطيح بالمسار الذي أراده العراقيون لمستقبلهم.

وقوع العراق ما بين "داعش" (وقبله "القاعدة") و"الحشد الشعبي" (وقبله ميليشيات منظمة بدر وجيش المهدي وما شاكل) هو تتمة لوقوعه عام 2003 بين الاستراتيجية الإيرانية والاستراتيجية الخليجية: إفشال المشروع الأميركي في تحويل العراق إلى نموذج "بناء الأمم". حينها، انهمكت كل دول المنطقة في منع قيام العراق مجدداً. سوريا الأسد تسلح العشائر السنية وتؤمن ممراً من حلب إلى الموصل لـ"الجهاديين" الذين يقتلون الشيعة، وإيران (حليفة الأسد) تمول وتسلح الميليشيات الشيعية التي تقتل السنّة. فيما بعض دول الخليج تؤمن المال والسلاح والممر الصحراوي إلى داخل العراق لجحافل "الجهاديين"، إلى الأنبار وغيرها.

تلاقى الأعداء هؤلاء على هدف واحد، هو ليس منع الأميركيين من خطتهم وحسب، بل منع عودة العراق القوي، "المخيف" لدول الخليج والعدو القديم لإيران والخصم المرعب لسوريا الأسد.

يكفي النظر إلى حال الضعف والفقر والتشرذم والخراب والفساد والتمزق الطائفي

قامت استراتيجية الحرس الثوري، وفق تعبير قاسم سليماني نفسه، على الدرس الأليم من الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات

الذي يعتري العراق، الذي يمتلك مقومات وطاقات كافية لتضعه بمصاف الدول المقتدرة والثرية والمزدهرة، لنفهم أن هذه المفارقة بين الواقع والممكن تدل على فظاعة ما ارتكبته الأنظمة بالشعب العراقي ودولته.

قامت استراتيجية الحرس الثوري، وفق تعبير قاسم سليماني نفسه، على الدرس الأليم من الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات: إنهاء التهديد العراقي إلى الأبد والحرص على بقائه ضعيفاً.

الاستراتيجية الخليجية مشابهة لأسباب مختلفة: غزو الكويت مثال واضح. ومنها أيضاً خطر قيام نموذج سياسي ثقافي اجتماعي في العراق، قد يسبب عدوى تصيب دول الخليج، خصوصاً السعودية. عدا عن التنافس التاريخي في الإمساك بالقرار العربي: مصر، السعودية، العراق (وسوريا والجزائر إلى حد ما).

اليوم، وانقضاضاً على انتفاضة العراقيين وجرّ العراق إلى واقع مغاير، وإعادته مسرحاً وساحة لحروب الآخرين على أرضه، يحدث الاشتباك المفتعل عمداً وإصراراً بين الولايات المتحدة وإيران.

إنه السيناريو القذر نفسه الذي نفذه الحرس الثوري وبشار الأسد وحزب الله في صيف العام 2006، حين استدعوا إسرائيل عمداً إلى الحرب، انقلاباً على انتفاضة اللبنانيين طلباً للاستقلال ولبناء الدولة والخروج من الوصاية السورية والتدخل الإيراني وإنهاء الحال الميليشياوية. هكذا، تم تدمير لبنان وإدخاله في نفق مظلم نحو الانهيار، المستمر حتى يومنا هذا. ليكون راهناً بلداً مخطوفاً منذوراً لمخططات إيران وحرسها وحزبها المسلح.

وإذ تجددت انتفاضة اللبنانيين منذ تشرين الأول الماضي، كان الجواب عليها جاهزاً وفعّالاً: انظروا ماذا نفعل بنظرائكم العراقيين، التفتوا إلى ماضي الحرب الأهلية التي نستطيع تجديدها، انتبهوا إلى الحدود الجنوبية حيث صواريخنا على أهبة تفجير حرب مع إسرائيل.. بل تذكروا ما اقترفناه في سوريا.

إنها "السياسة" ذاتها، التي نفذها بوحشية منقطعة النظير نظام بشار الأسد. بل وكثف من ضراوتها إلى حد جهنمي. فمقابل خروج السوريين بالطموحات والتطلعات ذاتها التي عبرت عنها كل شعوب المنطقة والعالم العربي، استجلب ليس حرباً واحدة بل سلسلة من الحروب وسلسلة من الاحتلالات. وبدل الميليشيا الواحدة أنشأ واستدعى ما لايعد منها، وجيوشاً ومرتزقة وجماعات إرهاب. وبالطبع، تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني، المحترف في تدمير المشرق العربي، كما لم يحلم به أي مشروع استعماري سابق.

السيئ والشرير في هذا المشهد، هو الأميركي نفسه، الذي قتل قاسم سليماني لا لأن الأخير شريك أصيل في المذبحة العراقية والسورية التي أودت بحياة مئات الألوف من الأبرياء، بل لأنه مسؤول عن مقتل أميركي واحد وعن حرق مبنى بالسفارة الأميركية في بغداد.

لا تعاقب أميركا إيرانَ على شرورها تجاهنا، بل هو القصاص "المدروس" بسبب المسّ

كل ما يحدث هو وأد أحلام مواطني سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، بأن يحظوا بدولة وطنية ترعاهم وتنبثق من إرادتهم وهويتهم وطموحاتهم

بالمصالح الأميركية وحسب. ويمكن القول إن الهدف الأميركي المعلن هو تحقيق "الصفقة" المناسبة مع النظام الإيراني، على قاعدة "التعامل مع القوي". وبالتأكيد، على حساب الضعفاء العرب، على حساب هذه الكيانات الممزقة والواهنة والمنهارة.

كل ما يحدث، إنما هو فوق جثثنا وفوق خرابنا. عراك بين إمبريالية عالمية نحت جانباً في هذا الجزء من العالم كل اعتبار أخلاقي وقيمي، بمواجهة مشروع إمبراطوري إقليمي تسعى إليه دولة قومية إيرانية متسلحة بطاقة دينية كفيلة بالتعبئة والحشد والاستتباع.

كل ما يحدث هو وأد أحلام مواطني سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، بأن يحظوا بدولة وطنية ترعاهم وتنبثق من إرادتهم وهويتهم وطموحاتهم، وأن يعيشوا حياة "طبيعية" مثل سائر البشر.

هذه الرغبة الأخيرة، أن نكون بشراً وحسب هو الذي استثناه الغرب عنا، واحتقرته منظومة "الممانعة". لقد اتفقا سوياً أن نبقى هكذا: ضحايا.