ما الفرق بين المخبر والمندوب والمتعاون في نظام الأسد المخابراتي؟

2024.02.04 | 05:51 دمشق

ما الفرق بين المخبر والمندوب والمتعاون في نظام الأسد المخابراتي؟
+A
حجم الخط
-A

ورد في الأخبار، في الأيام الماضية، أن هناك إعادة هيكلة للأجهزة الأمنية يعمل عليها بشار الأسد شخصياً عبر إعادة تعيينات، وإعادة هيكلة، وتغييرات محددة، وتفاءل كثيرون فيما قام به، معتقدين أن ذلك سيكون له آثار إيجابية، أو نوع من الإقرار من قبل النظام بأن التغول الأمني يجب أن يكون له حدود.

من المهم بداية توضيح أن نظام الأسد والمخابرات تشبه علاقة الثعبان باللدغ والسم، إذ لا يمكن أن يتخلى عن سمّه، وإحدى أدواته الوجودية الرئيسية هي اللدغ. لسبب بسيط وهو أن النظام السوري بنى نظاماً مخابراتياً خاصاً متوحشاً، كما أشار إلى ذلك باحثون عديدون، غير قابل للتقليد أولاً، وغير قابل للحياة ثانياً، دون هذا التغول والتوحش المخابراتي.

ظهرت الدعوة للإصلاح المخابراتي أول ثورة السوريين عام 2011، وطُرِحَتْ على بشار الأسد شخصياً وكانت إحدى أهم مطالب السوريين.

وكنت قد نشرت مقالاً، أدعو فيه النظام للإصلاح السياسي والإداري والتنظيمي، عبر صفحة كاملة في جريدة تشرين، أول الشهر الرابع عام 2011 كان من ضمنه الدعوة لإخراج الأجهزة الأمنية من مراكز المدن، وضبطها بأنظمة واضحة، ودمجها، ومأسستها، وإلغاء القرارات التي تعفي مرتكبيها من المحاسبة والتخفيف من تدخلها بتفاصيل الناس اليومية. بل طرحتُ فحوى تلك الأفكار على آصف شوكت شخصياً، في إطار البحث عن حلول عام 2011 برفقة أحد أقرب ندمائه!

أصحاب الخبرة، قالوا لي وقالوا لغيري: لا تحلموا بمثل هذا التغيير! أولئك المخابراتيون لو شعروا أن سلطتهم سيُحدُّ منها، سيغتالونه! فمن سيتخلى عن سلطة وأموال ومصالح ومنافع يحصل بموجبها على الملايين، ويخضع لهم معظم المواطنين وأصحاب المال كي لا تتعطل أعمالهم!

المخابرات في سوريا كانت تتصرف دون أي منظومة رادعة في كل قطاعات الحياة السورية، لأنها محمية قانونياً وسلطوياً مما يمكنها من أن تفبرك أي شيء

وسرَّب نظام الأسد لاحقاً فكرة تقليص الموافقة الأمنية للتوظيف والقيام بمهن عدة، وكان حريصاً على نشرها في الأخبار العاجلة، لكن السؤال الذي ظل مفتوحاً، هي أن النظام كان يتحدث في هذا السياق عما هو معلن ومقرر فيما يخص الموافقة الأمنية المسبقة، لكن المخابرات في سوريا كانت تتصرف دون أي منظومة رادعة في كل قطاعات الحياة السورية، لأنها محمية قانونياً وسلطوياً مما يمكنها من أن تفبرك أي شيء، وأن تقوم بما تريد دون أي محاسبة، وليست بحاجة إلى فكرة "الموافقة الأمنية" لتفرض سلطتها. يمكنها اختلاق ما تريده وحله بالطريقة التي تريدها!

شاءت المصادفة أنه حين تم تكليفي عميداً لكلية الآداب في الحسكة عام 2009، بناء على مقترح وزير التعليم العالي، في نوع من الإبعاد "المنظم" عن وزارة التعليم العالي، أن يكون اثنان من قادة الأجهزة الأمنية في تلك المحافظة من الأقارب فقد كان ابن عمي "بالمفهوم العشائري" كل من الرائد عمار الهفل في أمن الدولة، والعميد "أديب السطام" في الأمن العسكري، وفي الوقت نفسه كان المقدم "زياد الدخيل" وهو زميل دراسة وأهله أصدقاء عائلة في الجنائية. مما أتاح لي الاطلاع على طبيعة عملهم عن قرب، حيث كانوا يتحدثون عن تفاصيل كثيرة يعرفها من كان له قريب يعمل في تلك الأجهزة أو صديق، ذلك أن الاستعراض المخابراتي للعاملين في هذا الجهاز يصبح جزءاً وجودياً من حياتهم، حتى لو كان الضابط أو العنصر شقيقاً لك! لأن استعراض السلطة هذا؛ جزء من أمراض تلك الأجهزة التي تصيب كل من يدخل فيها!

أجاب أديب السطام مرة حين طلبت منه أن لا يزور الكلية التي أديرها مندوب الأمن العسكري، حيث اشتكى الموظفون من ثقل دمه ووقاحته وتدخله بتفاصيل عملهم: لا يمكن، هذا جزء من عملنا ودورنا! عملنا الرئيس هو جمعُ المعلومات ومراقبة العاملين والمراجعين والدوائر الحكومية ورفع تقرير شهري إلى رئاسة الفرع، التي ترفع خلاصته إلى قيادة المخابرات العسكرية بدمشق التي ترفعه إلى القصر الجمهوري مباشرة. حيث كما هو معروف في سوريا يتواصل قادة الأجهزة الأمنية مع رئيس النظام مباشرة، بعيداً عن التراتبية العسكرية.

وتابع: إضافة إلى هذا التقرير الشهري، يجب أن يكون لدينا إحاطة بكل تفصيل أو جديد يحدث في المحافظة، وفي حال سؤالنا عنه من الجهات الأعلى يجب أن يكون لدينا التفاصيل الكاملة التي تميزنا عن سوانا من الفروع الأخرى، إضافة إلى ما نقوم به من استدعاءات ومتابعات واعتقالات نحسب أنها يمكن أن تؤثر على النظام أو تدخل في باب تجاوز الحدود، ولما سألته عمن يحدد ذلك أو الناظم لذلك؟ قال لي حرفياً: التقدير الشخصي لرئيس الفرع ورؤساء الأقسام وقادة المفارز وقناعاتهم!

كان فضولي الشديد لفهم ميكانيزمات العقل المخابراتي لنظام الأسد يسمح لي بعدد من الأسئلة (التي تعد تجاوزاً لما هو سائد)، مستفيداً من صلة القرابة، خاصة في حال كنا نتناول الطعام في مكان غير رسمي، حيث كان أولاً يعطي أجهزة اتصالاته لسائقه ومرافقه ويجعلهم ينتظرون بعيداً عنا، خشية منهم ومنها.

أحد تلك الأسئلة المحيرة كانت: ماذا يستفيد المخبر من إخباره لهم، وهل هناك رواتب لهم كما يشاع؟ وكيف يختارونهم؟ إذ لم أكن مقتنعاً بالتفسير الأخلاقي لفكرة المخبر وأنه "شخص دنيء" وبلا أصل وسوى ذلك، وفقاً لقراءاتي وتجاربي في الحياة، أن ما يحرك الأشخاص غالباً مصالحهم أو إيديولوجياتهم وقناعاتهم، وليس وضاعة طباعهم أو رقيها أو أصولهم حيث لها دور ضئيل جداً!

فقال لي حرفياً حين سألته عن جمع المعلومات وطرقه والفروق بين المتعاون والمخبر والمندوب الأمني: المندوب الأمني هو عنصر مخابرات يذهب بشكل أسبوعي على الأقل إلى الدوائر الحكومية. حيث تقسم دوائر المحافظة إلى قطاعات عمل، ليلتقي هناك بموظفين يستمدُّ معلومات منهم، أو يقاطع تقارير معهم، أو يسأل عن معلومات ترد إلى أقسام الفرع، ومدى دقتها ولماذا حدث ما حدث. ليرفعها إلى رئيسه الذي يرفع الخلاصة اليومية للقسم المعني والذي يرفع ما يظنه ملائماً لرئيس الفرع. وكل من أولئك له الحق في المتابعة والاستدعاء والاعتقال أو البحث عن مزيد من التفاصيل.

كان الرجل قد خدم طويلاً في المخابرات وأصابه الملل والضجر، إضافة إلى أن شعوره بأنه مغبون لأنه لم يعين رئيس فرع لأن انتماءه العشاري لا يخدمه، يجعله يجيب بأريحية عن أسئلتي، بل قال مرة حرفياً لي وهو يضحك: إنْ كتبتَ كتاباً أو سربت معلومات مما أقوله، سأعتقلك حتى لو تدخل كل شيوخ العقيدات من أجلك!

ضحك مرة، بعد أن عرض أمامي مجلداً كبيراً عنونه بـ المتعاونين، حين قلت له: هذه المفردة مبتدأ، جمع مذكر سالم، الصحيح أن تسميهم: المتعاونون!

كنت أؤجل أسئلتي تبعاً لمزاجه، كي لا يجيبني أجوبة مختصرة، وحين يكون رائقاً يستفيض في الإجابة والشرح. وقد فصل مرة حين كررت سؤالي عن المخبرين فقال: فوائد المخبر من عمله معنا عديدة:

نحن نختار أشخاصاً لديهم إحساس بالظلم، أو طامحين لمكانة كأن يصبح رئيس دائرة أو رئيس شعبة في دائرته الحكومية!

والكثير منهم ممن يسهل أن ننفخ فيه بشعارات وطنية.

المتعاون الأمني شخص يتواصل معنا إما بزيارة الفرع أسبوعياً أو بلقاء مندوبنا أو عبر الاتصال في الحالات الطارئة. أما المخبر فهو درجة أقل من المتعاون

 وممن يحسب أن عمله معنا يجعله مهاب الجانب في دائرته الحكومية أومجتمعه المحيط به.

 إضافة إلى أننا نقضي لهم بعض حوائجهم اليومية عبر مندوبينا الأمنيين كالحصول على جرة غاز أو ربطة خبز أو رقم هاتف، تبعاً للأزمة الموجودة في البلد!

وللعلم، لدينا مخبرون كثيرون لا نثق بما يقولونه، ونحذف أكثر من 90 بالمئة مما يخبرونا عنه.

ولما سألته عن كيفية الحذف ومعياره، أجاب: التقاطع مع مخبرين آخرين، وكذلك الخبرة التي يمتلكها مندوبنا الأمني!

قال لي مرة: المتعاون الأمني شخص يتواصل معنا إما بزيارة الفرع أسبوعياً أو بلقاء مندوبنا أو عبر الاتصال في الحالات الطارئة. أما المخبر فهو درجة أقل من المتعاون، لأنه هو من يبادر أو يسأله مندوبنا الأمني حين يزور الدائرة.

سألته مرة: هل تردكم تقارير مغفلة من الاسم، ضحك وقال: كثيرة جداً!

وحين سألته: هل تأخذونها على محمل الجد؟

قال: غالباً ما تتسم بالكيدية وعدم الدقة!

نحن نستغلها لإزعاج الشخص الذي كتبت بحقه إن كان غير متعاون معنا، أو سبق أن عرقل وساطة لنا لتقضية مصلحة شخصية لأحد العاملين في جهازنا أو ممن يتعاون معنا أو ممن نتقاطع معهم بمصالح شخصية!

كان الرجل يدرك أنني أعده عينة بحثية وأن محاولتي فهم فلسفة عملهم وسلوكهم وتصرفاتهم وميكانيزمات عملهم أبعد من جلسة عشاء، وللأمانة كان يدعوني أكثر مما أدعوه كوني ضيفاً قادماً من دمشق أسبوعياً ليومين فقط!

غير أن ما يجعله يجيب عن أسئلتي: الاطمئنان العشائري، وكذلك شعوره بالمكانة، وأنني رجل أكاديمي، "على باب الله" كما كان يصف الأكاديميين!

سألته مرة بصيغة المزاح: من أين بنى الفيلا الخاصة به! خاصة أن راتبي كأستاذ جامعي مع التفرغ العلمي أكبر من راتبه ولم أستطع بناء شقة وسافرت إلى السعودية للعمل ست سنوات هناك!

فأجاب بعد أن تغير لون وجهه قليلاً: لم يسألني أحد مثل هذا السؤال من قبل!

لكن لا بأس يا أحمد سأجيبك: أنت تعلم من هو والدي، وأننا ملاك أرض، وأنت تعلم أنني لا أرتشي!

حين رأى حركة حاجبي مؤكداً على قوله: لم أقصد ذلك!

 وفيما انشغل بتلك اللحظة باتصال هاتفي، كنت أنا قد خشيتُ من عرقه الأمني، ولمتُ نفسي أنني تجاوزت حدودي، وخفت من "اللدغة المخابراتية" التي قد تصيب القريب قبل الغريب!

تابع: الكثير من الوجهاء والتجار وأصحاب الأموال في المحافظة يدخلون معنا في شراكات لحمايتهم وحماية مصالحهم، لكن أنا أتحدث عن نفسي، كثيرون غيري "يعملونها" كما أسمع!