icon
التغطية الحية

"ماذا وراء هذه الجدران".. قراءة في رواية راتب شعبو

2022.03.03 | 09:44 دمشق

ratb_shbw-_tlfzywn_swrya.jpg
نصار يحيى
+A
حجم الخط
-A

تسائلني (ماذا وراء هذه الجدران- راتب شعبو) عما قليل.

وهل يعتكفُ الصمتُ في محراب الجحيم؟

نسكنُ في الصمت القريب نرنو أمناً وسلاماً

لعله القيظُ أو السراب

لعله سراديب الموت في الظلام.

يعتقل راتب شعبو وهو في العشرين من عمره، بتهمة الانتماء لـ حزب العمل الشيوعي في سوريا.

ابتدأتْ ملامحُ وعيٍ شقيّ لما يصير عليه بعد وجيز من العمر: "كنت في الخامسة عشر. جاءت دورية أمن إلى بيتنا في الفجر -هكذا هم يتسللون فجراً كطيور العتمة والظلام- تبحث عن أخي الفار.. لماذا يبحثون عنه بهذه العدائية الظاهرة؟".

هنا تختزن أولى العتبات، طواف يشبه طواف المتصوفة للهوى ثم المعرفة، إنما المفردات هنا تنفرد بلغة المشاهدة عن حلم يحمل عنوان: تغيير العالم نحو الممكنات الأفضل، لا استلاب ولا قهر واضطهاد (الحرية) حيث تقرع بعض الأجراس نشدانا!

والسؤال هل الشاب بهذا العمر قد نهضَ على المعرفة للوصول إلى طريق (المجاهدة)؟: "في الصيف الثاني -بعد المداهمة تلك- حصلتُ على كتابات الرابطة (حزب العمل)، كنت أقرؤها خفية بنهم.. كان يسحرني الكلام القطعي، والنبرة الاستعلائية الواثقة المدعومة بولوج مواضيع ممنوعة: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا".

سوف يكتب بعد مضي سنواته الأولى، في سجن عدرا المركزي حيث الكتاب على أرصفة جدرانه: "كانت تلك فترة أتعرف فيها على الفكر (الماركسي).. كمثل المسلم حينما ينطق بالشهادتين وهو لا يعرف من الإسلام إلا ما شهد به".

بعد ثلاث سنوات وستة أشهر وثلاثة أيام في سجن تدمر (16 سنة وثلاثة أيام في السجون) يعود راتب شعبو الى حريته.

لطالما سلكتْ رحلته تلك "ماراثون السجن"، بما هي إخضاع لعمليات الاستلام والتسليم: فرع الأمن السياسي اللاذقية، كركون الشيخ حسن، فرع الميسات، عودة للكركون ثم الانتقال إلى سجن عدرا، وكان سجن تدمر "شيخ السجون" منتهى الرحلة بعد اثني عشر عاماً ونصف.

راتب شعبو يعاودُ نسجَ تجربته بتفاصيلها، مرآته الخاصة، سراديب تلك "الرحلة". هسيس الكلمات يخرج على حفيف الذاكرة المتخمة بهذا الوجع، نزوع لـ "التطهير" كعنوان للعبور من قلق الكلمات التي كانت تقضُ اغترابه. إنها الكتابة وقد اصطفت معاناة التجربة مع المكان (السجن).

تتماهى ثنايا المكان بتاريخه المحدد وزمانه، يتشابه مع التوثيق والتسجيل بتفاصيله وارتباطه بالزمن الطبيعي. أيضا بالتعاقب الزمني دون التلاعب في أسلوب الكتابة باختلاف الأزمنة، إلا فيما ندر: "سمعت صوت الشرطي يقول: يالله يا شباب تنفس (كركون الشيخ حسن). سأعرف لاحقاً كم هي مدنية هذه اللهجة حين سأقيسها بلهجة أسياد وجبابرة وأرباب سجن تدمر".

وأيضاً الخاتمة تعود بنا للبدايات. السردية التي اعتمدتها (ماذا وراء الجدران؟) كما مثيلاتها ما اصطلح عليه (أدب السجون)، حيث الروي يعتمد الواقعية بتفاصيلها المرعبة، تتراجع هوامش المتخيل الروائي؛ هل يمكن لمخيال روائي بما فيها ما أطلق عليه الواقعية السحرية لأدب أميركا اللاتينية. أو عبثية وسوداوية كافكا، أن يصل لبعض المشهديات التدمرية (شيخ السجون وحقدها). زلزال: "كان حسين هو الليلي.. ظن أن كل حراس السجن وقفوا على شرّاقة مهجعنا وراحوا يخبطون بأرجلهم، فما كان منه إلا أن هرع إلى تحت الشراقة، وخبط برجله اليمنى على الأرض محيّياّ بأعلى صوته: حاضر حضرة الرقيب أول! لم يسمع رداً.. صوت الهدير والخبط على الشراقة، حيّا بقوة أعلى: حاضر حضرة الرقيب أول!

هناك من صاحَ زلزال! سوف يقرؤون عبر جريدة البعث الوحيدة التي تسمح وتعاد إلى أصحابها، حصل زلزال بمكان قريب من السجن".

علينا أن نتعرف في غياهب هذا الجحيم التدمري أن هناك علامات هتك وسفك من السجان إلى المعتقل، من مفرداتها الحارس الذي يصعد إلى السطح وهو على الأغلب عنصر من العناصر قد تجاوز الامتحان في امتهان أشد الأساليب فتكاً بالساكنين دونه بالأسفل (مهاجع المعتقلين)، وقد يضيف من عنترياته أدنى حثالة الكلام في عريه الأصلي، لما بعد البشر لم يغادروا مرحلة التوحش. عودة المكبوت بالتعبير الفرويدي لما قبل الأنسنة (الحضارة).

الحارس يلقي بجحافله على شخص مناوب من المغضوب عليهم (المعتقلين)، الليلي عليه أن يشارك الجلاد بالإشارة لمن سوّلت له نفسه، الحركشة تحت الغطاء، وليس بعد الكفر ذنب!

أحدهم (صفوان) لم يجد النوم إليه سبيلاً والمثانة تصرخُ بالعويل، على غفلة من الليلي، ظناً منه أن حارس الموت بعيداً عن الشراقة، نوى "التبوّل" إذ بأنياب تزمجر: "يا منا..ك!".

عند الصباح وبعد تناول الفطور كما هي "أعراف التعذيب"، يخرج (صفوان) ومئة جلدة. علماً أنه لم يتبول! عن هذا الوضع الاستعصائي تجرؤوا وسألوا مساعد الانضباط -ترتيبه الثاني بعد الحاكم بأمره مدير السجن- هناك حالات تضطر للتبول ليلاً مرضياً. لا أحد يمنعك .. اطلب الإذن من الحارس، هو بدوره يبلغ الإدارة! "الواقع نحن لم نجرؤ ..".

هناك فيلم (ليلة الاثني عشر عاماً) Twelve-Year-Night. الفيلم مستمد من تجربة السجن لثلاثة قياديين في حركة التوباماروس اليسارية في الأورغواي (1973-1985). أحد المشاهد الكاريكاتيرية والمفعمة بسخرية سوداء:

أحد هؤلاء "الخطرين" يريد التغوط. يقف على فتحة التواليت، مكبل اليدين من علٍ، ممنوع عليه الجلوس..

"كيف لي؟". يبدأ طريق التسلسل من أصغر رتبة إلى الأعلى في فوج وحراسة السجن مع لفيف من العساكر... ربما كان نائماً رئيس البلاد فلم يستطيعوا إخباره!

شيخ السجون -تدمر- لديه مفردات خاصة، ينفرد بها عن بقية السجون في الكركون أو سجن عدرا ولاحقاً سجن صيدنايا قبل التحولات. الشرّاقة بتعدد دلالاتها تتربع سدرة المنتهى، والطماشة التي ستختلف عن طماشة فروع التحقيق، هناك هم يهدوكَ إياها، وهنا عليك الاختراع: "مهمتها حفظ النظام الليلي منعاً من النظر، لربما منعاً لإمكانية التعارف بين الحارس والمعتقل". ويلٌ لمن انزاحت عنه أو غابَ عنها!

تطرح الرغبة جموحها للنظر ومحاولة التلصص، هل يمكن أن تتراءى الأنوثة بأكثر من اليدين؟ تغيب المرأة كلياً مع "التدمير" المسكون بولائم "الفريسة"

"على قلق" الفقدان لهذا "المعشوق" يغدو البوح شوقاً وتعطشاً، سريالية الكلمات كما السرنمة أثناء النوم:

" طماشتي من قماش البيجامات، لينة الملمس. أرضيتها زرقاء غامقة قليلاً، عليها زهور بيضاء كما زهور التفاح أو اللوز. كم وقعت عيني على هذه النقشة وأنا أحمل طماشتي في يدي.. في لحظات القلق والترقب وانتظار المجهول، كنت أضع أصابعي المتوترة داخل طماشتي.. ينفرد قماشها أمام عيني كأنها تبتسم لي".

"رَشرِش" وسخرية الكلمات حينما تلتقي مرادفها (رشرش حبك يا جميل.. الأغنية المشهورة). صوتٌ يخرجُ من فم الرقيب "وهو يعطي هذا الأمر بنبرة حازمة.. كأنه وسط معركة حامية". "رشرش"، أي احملْ "بيدون" الماء ووزع "الخيرات" على الأرض المتشققة، يتساوى هنا البرد والصقيع مع الصيف الصحراوي. إياكَ أن تتردد أو تتلكأ.

"المرأة" الصوت الغائب الحاضر

لم نلحظ في الرواية إلا بعض الإشارات المتناثرة، شذرات على هوينى تلتقي. في الخاتمة بضع همسات عن فتاة كان يلتقي بها قبل اعتقاله بسويعات: "في ذلك المساء الصيفي الهادئ، أغرقتني صبية ساحرة ببحرها الدافئ". شبه علاقة بين الفتى ابن العشرين وتلك الصبية، يتسللا إلى خيمة صغيرة محجوبة -الشمس و نظرات المتطفلين- بشجيرات حور وغار.

في فرع الميسات للتحقيق والتعذيب: هل أتاكَ حديث القبو؟

يتسلل إلى مسامعه بعد أن هدأ التحقيق واستراح: "خطوات كندرة نسائية، خطوات قصيرة وقليلة.. صرتُ أترقب الصوت وأستمتع به".

في الزنازين الفوقانية لدى كركون الشيخ حسن، كان الشباك يطل على سطح بناية، إذا ما وقف السجين على رؤوس أصابعه يستطيع أن يرى "يدي امرأة تقطفان الملابس الناشفة عن حبل الغسيل".

تطرح الرغبة جموحها للنظر ومحاولة التلصص، هل يمكن أن تتراءى الأنوثة بأكثر من اليدين؟ تغيب المرأة كلياً مع "التدمير" المسكون بولائم "الفريسة" من ظلاميات يفترض أنها مضتْ، حتى تغيب عن كاتبنا أي استيهامات أو حلم يقظة، ماعدا حلم يكاد يكون الوحيد بحضن الأم المرتقب -سوف يرى أمه لمرة واحدة طيلة الثلاث سنوات والنصف في تدمر، وعبر قضبان معدنية شديدة المراقبة بلقاء قصير اسموه "الزيارة".

ولكن، هناك (وفاء) أخت أحد المعتقلين، تأتي لزيارة أخيها في سجن عدرا -المكان يسمح أن تتعرف الوجوه على بعضها بين زائر ومُزار- "كانت تحط على شباك زيارتي كفراشة". وفاء من جسد وروح، ليست صوت أنوثة عبر كندرتها، أو يد تمتد لتمسكَ حبل غسيل. لربما ومع هذه الشفافية لقصيدة حب بابلية: ابحثْ عني إلى أن تجدني.

لكنه لم يستطع أن يجدها. يخرج أخوها في إفراج شمل معظم المجموعة، إلا راتب وآخرين قلة؛ كان قد أوصى سيادته عكيد الفرع ظلماً وانتقاماً، لتحسين مرتبته أمام أسياده: "راتب قائد تنظيم طلابي ينتمي للرابطة".

سيرسم هذا الدفين ملامح أشد عسفاً لرحلة راتب السجنية. يستثنى من إخلاء السبيل، يقدم بعدها مع الآخرين لمحكمة أمن الدولة بزي قروسطي كما محاكم التفتيش، يحكم عليه بالأشد 15 سنة مع الأشغال الشاقة.

(وفاء) تأتي ومعها قرنفلة حمراء إلى المحكمة، تسترق غفلة الحراس، تعطيه هديتها. "بعد أن عدنا من المحكمة وضعتُ القرنفلة في كأس ماء جنب سريري، كنت أنظر بكسل إليها، حتى انكسر فجأة عنقها، مالت على غصنها كحمامة ذبيحة".

الاستدمار. نحتَ راتب المفردة من تدمر -التدمير (السجن). هي على التضاد من الاستحباس حيث الأخيرة فسحة ما من الاستقلالية بين المعتقل والسجان. الاستدمار: المعتقل يفتقد لأبسط حقوق الخصوصية، مراقب عبر الشراقة ليلاً نهاراً على أهبة الترقب والخوف لما قد يحصل مع الاحتكاك بحضرة الرقيب أول (تنفس، تفقد، إدخال الأكل ثلاث مرات)، كل احتكاك فيه احتمال الجلد والخبط والتشفيط على ظهر المعتقل.

حتى عنصر "البلدية" وهو سجين قضائي لمخالفة عسكرية ما، حتى هذا لديه القدرة على الأذى. يذكّر بكثير من الأوصاف بما سمي عبيد المنازل في التاريخ.

الاستدمار "هو أن تجلب الدمار إلى ذاتك مستسلماً للخوف، أن تسحق ذاتك أمام جبروت هذا الطغيان... أحد رفاقنا تلقى ذات مرة صفعة من رقيب.. لقوّتها انفلتت ساعته، سقطت على الأرض، فما كان من المصفوع إلا أن انحنى والتقط الساعة وناولها للرقيب!".

لا أعتقد أن الجمع وقد حضر هذه "الوليمة"، استهجن هذا السلوك.. لايمكنك هنا أن تطلب من المعتقل عنتريات دونكيشوتية ذات أثمان باهظة، أبسطها العطب الدائم، إن لم يكن الموت.

جزء من هذا الجمع حينما كان المكان يسمح (الكركون) تعرض (علي) لصعفة غادرة ولم ينبس ببنت شفة، الجمع ربما حينها استهجن ولكن بصمت. (علي) بمكان آخر في سجن عدرا، انتقم لنفسه، كانت صفعة قوية ومفاجئة لأحد العناصر. الجمع أثنى عليه، تخيل ذلك في "استدمار" مثوى الجحيم!

في الأدب هناك متعة الانتظار والترقب، (أفق الانتظار) استحضار القارئ ليكون متكافئاً مع النص في اغترابه وسبر معاناته. لربما يضاف هنا خصوصية النص (معاناة رحلة ومصير أشبه بتراجيديا إغريقية، إنما تنطقُ عن بشر وليس كائنات إلهية).

هل يمكن الخروج من فم الوحش "السجن"؟ أعتقد أن الكتابة وهذا النص دال بذاته على محاولات الخروج. "حينما الثمُ هذا الليل تراني وأراه مثقلاً بشظايا هذا الوهن. يأخذني النزيف شطر حكايا الدامس من قرابين التطهر على ذنب لم يرتكبْ!".