مأساة غزة والأسد السعيد..

2023.10.26 | 06:01 دمشق

آخر تحديث: 26.10.2023 | 06:01 دمشق

مأساة غزة والأسد السعيد..
+A
حجم الخط
-A

رغم غياب بشار الأسد عن المشهد السوري في الفترة الأخيرة واختفائه شبه التام عن الأحداث السياسية والعسكرية التي تعصف بالمنطقة، إلا أنه يعيش اليوم أقصى درجات السعادة، بعد أن قدم له بنيامين نتنياهو طوق نجاة من نوع خاص هذه المرة من خلال الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة ومستوى العنف المستخدم ضد أهالي المدينة والذي حول بوصلة الإعلام العربي والعالمي إلى منطقة الصراع الأكثر سخونة.

من وجهة نظر الأسد، تشكل تلك الحرب حالة خلاص له من أكبر مأزق داخلي يواجهه في الفترة الأخيرة، بل ربما كانت الحل الوحيد الذي يمكن أن ينتشله من وسط أمواج المظاهرات الهائجة منذ أكثر من شهرين في مدينة السويداء، من ذلك الحراك السلمي المحرج الذي عكر صفو الرئيس بعد أن اعتقد بأن صوت السوريين قد صمت إلى الأبد.

وقف الأسد وداعموه عاجزين عن التعامل مع البركان القادم من جبل العرب حيث قطع الثوار هناك شعرة معاوية التي كانت تربطهم بالنظام وأحرقوا مراكب العودة، وحشروا حلف المقاومة والممانعة ومعه روسيا أيضاً في الزاوية الضيقة، من خلال شكل مظاهراتهم ومضمونها ومن خلال شعاراتهم الوطنية البحتة وعجز النظام عن إلصاق تهمه التقليدية بهم، وساد الصمت في القصر الجمهوري لفترة طويلة في انتظار حل يخرج النظام من ورطته، ولم يتأخر نتنياهو في عملية الإنقاذ.

ورغم اختلاف أهداف الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، إلا أن الأسد وجد فيها استثماراً من نوع خاص ولا سيما أنها تزامنت مع احتياجه لحدث من هذا النوع، إنها حرب تنعش سعادته المكدرة نتيجة خرق السويداء لكل التوقعات وكسرها جدار الصمت الذي سيطر على المحافظات السورية الأخرى من جراء القمع غير المسبوق الذي تعرض له السوريون خلال اثني عشر عاماً.

الحدث التراجيدي الذي تعيشه غزة، والذي أشعل حالة من الغضب والألم على مستوى شعوب المنطقة العربية برمتها، وفي أجزاء كبيرة من العالم، انعكس على الأسد فرحة وتفاؤلاً بالخلاص من ورطة السويداء التي كشفت ظهره المتستر بذريعة حماية الأقليات.

هو اليوم يزداد سعادة بالدم الفلسطيني الذي لا يعنيه منه سوى كونه وسيلة جديدة لخلط الأوراق والتغطية على ما يحدث في ساحة الكرامة في السويداء

على مدار اثني عشر عاماً بقي الأسد سعيداً ولم تفارقه ضحكته رغم البؤس الذي خيم على السوريين، كان الدم السوري الذي سفك فداء لكرسيه مصدراً أساسياً لتلك السعادة، لا يختلف في ذلك دم معارضيه عن دم مواليه وحاضنته بدليل ضحكاته وخفة ظله وقدراته التهريجية التي كان يستعرضها بعد كل مأساة تطول السوريين بمن فيهم أتباعه، وها هو اليوم يزداد سعادة بالدم الفلسطيني الذي لا يعنيه منه سوى كونه وسيلة جديدة لخلط الأوراق والتغطية على ما يحدث في ساحة الكرامة في السويداء.

ظل الأسد عاجزاً ومكبلاً على مدار ما يقرب من شهرين وهو يستمع إلى أصوات أهل السويداء التي تهينه وتهين أباه وأسرته من خلال مطالبتها بإسقاطه ورحيله وتركيزها على وحدة الشعب السوري وحتمية الخلاص من نظام العصابة، كسرت السويداء يد النظام، وكسرت معها كل الأصنام التي كانت لفترة قريبة مقدسة بحكم تشديد الحراسة عليها، واحتل حراك السويداء صدارة الخبر السوري، مما اضطر النظام للبحث عن خطة للتعامل مع السويداء، خطة غير مباشرة لضرب ذلك الحراك دون أن يبدو أنه يستهدفه، خطة لا تثير الشكوك، فكانت فكرة ضرب الكلية الحربية التجلي الأبرز لطريقة تعامل الأسد مع السويداء وبحثه عن الحلول.

لا يمكن إثبات علاقة الأسد بحادثة الكلية الحربية بشكل جازم لأن النظام يحتكر كل الحقائق، إلا أن التوقيت وهوية المستفيد والأسلوب التقليدي للنظام في حل مشكلاته تشير بأصبع الاتهام إلى الفاعل الحقيقي بشكل واضح رغم جهود النظام المبتذلة لإخراج مسرحيات عسكرية يحاول من خلالها أن يؤكد روايته التي تتحدث عن استهداف الإرهاب له وبالتالي تأكيد "مظلوميته".

أراد النظام من ضرب الكلية الحربية استعادة الخوف الذي زرعه في حاضنته التي بدأت مؤخراً تفقد ثقتها بروايته من خلال الكثير من الأصوات التي أعلنت صراحة أن ألاعيب النظام القديمة لم تعد تنطلي عليهم، وفي نفس الوقت راح يبحث عن طريقة لربط الحادثة المتعلقة بالكلية الحربية بأهالي السويداء وثورتهم، إلى أن جاءت حرب إسرائيل على غزة، فكانت بمثابة الهدية الثمينة للأسد.

يتمنى الأسد أن تطول حرب إسرائيل على غزة ليتعيّش على أحداثها ويتغذى على لهيبها ويضمن تشويشها على أحداث السويداء عسى أن تنطفئ الثورة هناك تلقائياً أو بقوة الإهمال، وربما راهن على تفريغ حراك الجبل من قيمته بوضعه في موقع المقارنة مع الأحداث الأكثر تأثيراً في المنطقة.

ورغم أن الحرب على غزة هي فرصة مثالية للأسد لتحويل شعارات المقاومة والممانعة إلى واقع، إلا أنه لم يتردد ولن يتردد في المغامرة بتلك الشعارات التي تعتبر مبرر وجوده والقفز عليها وإطلاق أبواقه ومفسريه لسد الفجوات الناشئة عن التناقض الكبير بين النظرية والتطبيق لدى نظامه، وبعدها فلتذهب فكرة المقاومة والممانعة إلى الجحيم.

في المقابل، يشدد أهالي السويداء حصارهم المعاكس للأسد ونظامه من خلال إظهارهم وعياً استثنائياً، هو وعي بثورتهم وأهدافها واستراتيجيتها، ووعي بألاعيب النظام وحيله، ووعي بضرورة الاستمرار رغم تراجع الاهتمام الإعلامي بهم.

تبدو الصورة التي يحاول الأسد رسمها في الخريطة السياسية والعسكرية القائمة مقلوبة الدلالة، فقد أفشل ثوار ساحة الكرامة خطته في توظيف الحرب الإسرائيلية على غزة

وفي هذا السياق، فإن حضور غزة في مظاهرات أهالي السويداء رغم كل أوجاعهم وآلامهم الخاصة، لعب دوراً في تحجيم النظام وتقزيمه، زاد على ذلك حضور إدلب ومعاناتها في خطاب ساحة الكرامة، الأمر الذي حشر النظام في زاوية أضيق وعرّى تماماً ادعاءاته بمناصرة القضية الفلسطينية، فحينما يكون المطالبون برحيل الأسد هم من يناصرون القضية التي يدعي النظام مناصرتها دون أن يفعل شيئاً، لا يتبقى للنظام ما يستر به عورته.

تبدو الصورة التي يحاول الأسد رسمها في الخريطة السياسية والعسكرية القائمة مقلوبة الدلالة، فقد أفشل ثوار ساحة الكرامة خطته في توظيف الحرب الإسرائيلية على غزة، واستطاعوا كشف زيفه من خلال المقارنة غير المقصودة التي خلقوها بين المواقف الوطنية الحقيقية التي تمثلها ساحة الحرية والادعاءات الفارغة للنظام وحلفه بالكامل.

ورغم وضوح هذه الصورة، فإن ذلك لم يؤثر على سعادة الأسد، على الأقل لأن الضغط الإعلامي عليه بدأ يخفت، وهو بالذات ما يبحث عنه كفرصة للتفكير بطريقة جديدة لإعادة خلط الأوراق وإيجاد الحلول التي يبحث عنها، والثابت الوحيد في المشهد هو حالة السعادة التي يعيشها الأسد، الفرق الوحيد الذي خلقته الأحداث الأخيرة يكمن في اختلاف أسباب السعادة، باختلاف الدم المراق، فإذا كان الدم السوري هو مصدر تلك السعادة خلال السنوات الماضية، فإن المصدر الجديد لسعادة الرئيس هو الدم الفلسطيني.

إن من قبل عملية التوريث وفرح بنجاحها وأسعده تحويل سوريا إلى دولة مدمرة وبلا ملامح، ومن يفرح بإطلاق لقب سيد الوطن عليه، ومن يفرح بالانتصار على شعبه، من خلال قتله وتهجيره واعتقاله وإبادته، ومن تفرحه فكرة الأبدية، لن يتوانى عن الفرح بموت الفلسطينيين وإبادة شعب غزة حتى لو لم يصب في مصلحته، لقد بات القتل والدم والإبادة، وبشكل أدق باتت الجريمة بكل أشكالها مصدراً أساسياً لسعادة الرئيس بصرف النظر عن الأهداف السياسية التي تحققها، إن رئيساً كهذا من السهل عليه أن يدمن على السعادة.  والجريمة في وقت واحد.