مأساة العدالة وملهاة ترامب والأسد

2023.05.07 | 06:37 دمشق

مأساة العدالة وملهاة ترامب والأسد
+A
حجم الخط
-A

لطالما اشتهر الأميركيون، إلى جانب الكثير من إبداعاتهم، بالاستعراض، وهذا أمرٌ يستهويهم ويتوافق مع منزعهم الكبير إلى الفرديّة والاستقلال. لعلّ من بعض أسباب ذلك، الطريقة التي نشأت بها الدولة الأميركية القائمة على الحلم، حلم الحضور والاستكشاف وإثبات الذات، حلم بناء الثروة والمجد، وهي غالبًا صفات تتحلّى بها شعوب الدول الحديثة في التاريخ، فتستعيض عن الموروث التاريخي العريق بالحاضر والتطلّع إلى المستقبل. وهكذا لم يتفاجأ الكثيرون من إطلالات ترامب في الفترة التي سبقت مثوله أمام المحكمة وخلالها وبعدها أيضًا. ربّما كان المفاجئ أكثر هو قرار هيئة المحلّفين الذي أرّخ لسابقة قضائية أولى في تاريخ الدولة الأميركية، تمثّلت بتوجيه تُهمٍ جنائيةٍ لرئيس أميركي سابق ومرشّح محتمل للرئاسة في الانتخابات المقبلة.

بالمقابل، لطالما اشتهرت أغلبُ شعوب الشرق الأوسط العريقة، ومن بينها الشعب السوري، بالاحتفاء والتغنّي بالتاريخ البعيد والموغل بالقدم، فمن أقدم أبجدية مكتوبة إلى أقدم عاصمة مأهولة إلى أقدم لغة محكيّة.. إلى آخر ما هناك مما تقادم عليه الزمن فعلًا وأثرًا، لكنّه ما زال حاضرًا في الوعي الجمعي المتجدد. وقد اكتفت بهذا من دون أن تسعى لصناعة المستقبل، أو بالأحرى مُنعت على يد من حكموها من أبنائها من السعي للمستقبل، وعندما حاولت، فُتحت عليها أبواب جهنّم. لكنّ التميّز الأبرز لبعض فئاتٍ من السوريين، أي أنظمة الحكم المتعاقبة خلالها والفئات المستفيدة منها، خلال الستين عامًا المنصرمة، كان ربّما في مضمار الكذب البواح. فمن محاربة الإقطاع إلى امتلاك الأراضي وما عليها من بشر، ومن محاربة الإمبريالية إلى الارتماء في أحضانها، ومن تحرير الجولان وفلسطين إلى بيعهما والحبل على الجرّار، ومن توحيد الأمّة العربيّة إلى تمزيقها وتمزيق الوطنيّة السورية، ومن بناء سوريا الحديثة إلى تدميرها على رؤوس ساكنيها، وهذا هو بعضُ مآل إرث حكم عائلة واحدة استأثرت بسوريا منذ نصف قرن ونيّف.

يتفاخر بشار متباهيًا بعودة قطار التطبيع إلى سكّته التي خطّها بالدماء والجماجم، ولا يُضيره أبدًا ما أنتجه حكم أبيه وحكمه من بعده من انتزاع عناصر القوّة من سوريا

يتبختر ترامب مختالًا بما يمكن أن تمنحه إيّاه هذه المحاكمة من أسبابٍ لتعزيز فرصته في العودة إلى سدّة الحكم، ولا يضيره أبدًا ما سبّبه نهجه الشعبوي المستقوي على السياسة والسياسيين من أضرار وشروخ في المجتمع الأميركي. ويتفاخر بشار متباهيًا بعودة قطار التطبيع إلى سكّته التي خطّها بالدماء والجماجم، ولا يُضيره أبدًا ما أنتجه حكم أبيه وحكمه من بعده من انتزاع عناصر القوّة من سوريا. فبدلًا من كونها فاعلًا في الإقليم بحكم موقها الاستراتيجي باتت مفعولًا به وبشدّة، وبدلًا من عنصر الشباب المتعلّم المؤهل في بيئة أكاديمية واعدة صار لدينا أجيالٌ جاهلة لم تذهب للمدرسة منذ عقدٍ ونيّفٍ من الزمان، ومن ذهب منها عاد خالي الوفاض من أي محتوى علمي أو ثقافي أو أخلاقي حتى، ومن شعبٍ فتيّ واعدٍ بديموغرافيا مضطردة النمو والازدهار إلى شعبٍ مهجّرٍ ونازحٍ ومسحوقٍ في الزنازين وأقبية الفقر والخوف والجوع والجهل. لكنّ الفارق بينهما أنّه لم يتسنّ لبشار الفرح بالقضاء على السياسة كما هو الآن ترامب، لأنّ الأوّل ورث دولة بلا سياسة أصلًا، بينما الثاني يواجه واحدة من أقوى الديمقراطيات في العالم.

قد تطولُ العدالة الجنائيّة ترامب في النهاية، لكنّ ذلك يتوقّف على مجموعة عوامل سياسية وقانونية، ولعلّ السياسيّة في هذا المقام أولى بالاعتبار. فهل سيكون بمقدور الطبقة السياسية العليا في الولايات المتحدة أن تتحمّل وقع إدانة رئيس سابق؟ إنّ الأمر لا يتوقف على موضوعة تصفية حسابات هذه الطبقة مع ترامب الذي اقتحم عالم السياسة من خارجه، وحاول شيطنة السياسيين والسياسة ذاتها باستخدامه أدوات من خارج السياق السائد والمتعارف عليه، فالأمر يتعلّق بأعلى منصبٍ رسمي في الدولة، وهي ليست أي دولة، بل أعظمها وأكثرها جبروتًا عبر التاريخ. ترامب ليس هتلر ولا بوتين ولا صدّام حسين، إنّه شاغلُ منصبٍ يمثّل ليس فقط عظمة أميركا وهيبتها، بل هو العنوان الأسطع للديمقراطية والليبرالية على حدّ سواء، أي إنّ المنصب برمزيته هذه يمثّل الحقبة الأخيرة السائدة حاليًا من الثقافة الرأسماليّة التي اعتبر فوكوياما أنهّا تمثّل نهاية التاريخ، فترامب بالتعبير المستعار من منطق فوكوياما هو الإنسان الأخير.

ستكون مهمّة تنظيفه من جرائمه صعبة المنال، فالزمن الراهن لم يبقِ كتابة التاريخ حكرًا فقط على المنتصرين، فالعيون مفتوحةٌ والمحابر مملوءة

لكنّ العدالة ذاتها لن تطول على الأغلب بشار الأسد، أو على الأقل العدالة الجنائيّة وليس عدالة التاريخ أو العدالة الإلهية، فالمؤشرات كلّها تدلّ حتى الآن، ليس أنّه نفذ منها فقط، لا بل على أنّه سيكون بمقدوره توريث السلطة من بعدِه لمن سيجعل منه بطلًا لا مجرمًا، هذا إن سار قطار التطبيع معه كما يحبّ ويشتهي، وكما يريد أغلب حكّامنا الأفاضل. بالطبعِ ستكون مهمّة تنظيفه من جرائمه صعبة المنال، فالزمن الراهن لم يبقِ كتابة التاريخ حكرًا فقط على المنتصرين، فالعيون مفتوحةٌ والمحابر مملوءة. لكن ماذا يفيدُ ذلك الضحايا؟ فهل يجدُ الشركسُ مثلًا في هزيمة جيش بوتين في أوكرانيا، إن حصلت، تعويضًا عمّا لاقاه أسلافهم على يد الروس من قتل أو تهجير؟ أم هل سيكون لحكم التاريخ من معنى إذا ما حظي به أحفادُنا مستقبلًا؟ لا يمكن في هذا المقام القفزُ عن مقولة أسماء بنت أبي بكر "لا يَضُرُّ الشاةَ سَلخُها بَعدَ ذَبحِها"، فلا نحن سنشفي غليلنا من قاتلنا، ولا هو سيتأثر بحكم التاريخ أو سيعاني منه، فهل يتعذّب ستالين أو موسوليني الآن؟ وما فائدة حكم التاريخ على قضاة محاكم التفتيش أو قادة الحروب عبر سيرة البشر! لا شيء من هذا يمكن قياسه، ولهذا بالذات آمن البشر بالعدالة المؤجّلة إلى يوم الحساب، علّ أرواحهم تجد بعض السكينة إلى حينه.

تمضي عدالةُ البشر ما استطاعت إليه وصولًا في مصائر الضعفاء، فغيابها كليًّا كارثة وحضورها جزئيًا مأساة، ويلهو المجرمون بأقدار الضحايا، ويختلف البعضُ منهم عن الآخر في مدى إجرامه وفي هذا الإطار يمضي بشار الأسد في ملهاته، ويبدو أنّ قدرنا أن يورثها لعبقريّ الرياضات من بعده، فقد يكون أكفأ منه في حسابات الجدّ واللعب، ويمضي ترامب في استعراضاته أيضًا، وقد يعود إلى البيت الأبيض ليستكمل طلاءه بما بدأه قبل سنوات بألوان جديدة أقلّ نصاعةً ونظافة، ونحن في سدّة الفرجة نعدّ الأيام على أصابع قتلانا ونخطئ كل حين، ونعود مع كل رئيس من البداية.