ليلة باردة على جسر الرينغ في بيروت

2019.12.21 | 17:46 دمشق

lbnan-n-1-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

كانت حوالى الساعة 12 ليلاً. أخرج من المنزل مصطحباً زوجتي إلى جسر "الرينغ"، الذي يقع على أرض مرتفعة تشرف على وسط بيروت، ويشكل وصلةً ما بين غرب بيروت وشرقها. في مبتدأه يحاذي حيّ الخندق الغميق (الشيعي) وفي نهايته مدخل منطقة الأشرفية (المسيحية). وعليه، فهو نقطة حساسة في الجغرافيا الطائفية السياسية، للعاصمة.

على جسر الرينغ هذا انضممنا إلى حشود المتظاهرين، شابات وشباناً هم الأكثرية، نخالطهم نحن جيل الأمهات والآباء، نصغي أكثر مما نشارك في إطلاق الهتافات، مبتهجين بحيويتهم، بروحهم المرحة وبصخبهم، كما بالطاقة الفائضة على التصفيق والقفز والرقص وترداد الأهازيج والأغنيات الثورية..

رايات ويافطات وآلات موسيقية في أيديهم، وحقائب صغيرة على ظهورهم، تحوي عبوات

الابتسام الذي يقارب الضحك سمة أصلية، بل صفة أولى لهذه التظاهرات، كأنما الثورة مقرونة بالفرح، بالزهو وباحتفاء الناس باجتماعها سوية تعارفاً وتقارباً

مياه ومناديل وكمبيوترات محمولة وسندويشات.. لزوم يوميات الشارع والاعتصام بعيداً عن منازلهم. وهم بهذا "مسلحون" بعدة الثورة السلمية والمدنية ولوازمها البسيطة والفعّالة.

الابتسام الذي يقارب الضحك سمة أصلية، بل صفة أولى لهذه التظاهرات، كأنما الثورة مقرونة بالفرح، بالزهو وباحتفاء الناس باجتماعها سوية تعارفاً وتقارباً، واندماجها معاً في إيقاع واحد وفي تأليف صوت واحد وجسد واحد ككتلة بشرية متناغمة على إلفة طارئة وحميمة.

ذاك ما جعلنا نتخلى تلقائياً عن تحفظنا المتأتي من الفارق الجيلي بيننا وبين الشابات والشبان، ومن الحرص الغريزي على فرديتنا الشخصية، ونندمج في هذا التجمع المبهج والباعث على حماسة الانخراط في الطقس الجماعي، الذي يمزج بين خطاب الغضب والتعبير الفرِح، ويمزج بين الصرخة والابتسام.

بقوة هذا السحر العمومي، وبالجاذبية التي تميز دوماً كل حركة اعتراضية، كنا نتظاهر مدفوعين بوعينا السياسي أولاً، لكن أيضاً برغبة عاطفية أن نكون وسط هذه النضارة التي يحملها هؤلاء الشابات والشبان كوعد مستقبلي وحلمي ومثالي.

نصف ساعة من امتلاء النفوس بالثقة والشعور بقوة الجمهور في منتصف الليل البارد، قبل أن تأتي القوى الأمنية من عناصر مكافحة الشغب، تؤازرها قوة من الجيش اللبناني، بأوامر واضحة: فض التظاهرة التي تقطع هذا الطريق الحيوي في العاصمة.

بداية، لم يبعث هذا الحضور العسكري الخوف في النفوس، طالما أن ثمة طمأنينة نسبية أن هذا العسكر مولج بـ"حماية التظاهرات" (مبدئياً). بل إن الحضور الكثيف للقوى الأمنية قد يمنع خروج شبيحة "حركة أمل" و"حزب الله" من حيّ الخندق الغميق، الذي يبعد عنا حوالى أربعمئة متر، ليعتدوا علينا.

ولأن سلوك الشرطة والجيش إزاء المشاغبين أو الشبيحة العنيفين من أنصار أمل وحزب الله كان انهزامياً، رحنا نخمن أن السلوك نفسه سيكون تجاهنا نحن السلميين الممتنعين عن أي شغب أو عنف. لكن فعل "قطع الطرق" في السياسة الأمنية لدى السلطة وأحزابها هو أمر مرفوض ومحظور. وبذلك، كنا عملياً نتحدى السلطة وأوامرها ونهجها. لقد باتت تظاهرتنا فجأة "غير شرعية"، عصياناً يجب قمعه.

من ورائنا شكل الجيش اللبناني ساتراً من الجنود المتراصين، سدوا علينا أي طريق للتراجع. ومن أمامنا بدأت صفوف الشرطة تتقدم نحونا بحزم وإصرار، حاملين دروعهم وهراواتهم وبندقيات (لانشر) القنابل المسيلة للدموع. انقلب سيرهم من المشي إلى الهرولة، وبدأت القنابل المسيلة للدموع تنطلق كمفرقعات الأعراس مضيئة الفضاء الليلي، ثم هابطة بين أرجلنا على الإسفلت لتنشر غازاتها ودخانها.

تبددت ابتساماتنا وحل السعال. تلاشت كتلتنا وتشرذمت، وصرنا نتراكض بشيء من الغباء والسذاجة في اتجاهات عشوائية، لا ندري أي المفر مع تزايد صعوبة الرؤية والتنفس، فيما الجيش منعنا من الخروج عن الطوق الذي أحكموه علينا. ركضنا باتجاه مسرب وحيد، زاروب جانبي إلى داخل الأشرفية. وأول الهاربين نحن كبار السن، فيما أول المواجهين والعنيدين والصامدين هم الشابات والشبان، الذين في معاركتهم لأفراد الشرطة وتلقي ضربات الهراوات كأنما ينجزون واجباً، أو يعتبرون "المواجهة" بداهة ضرورية لثورتهم، وتحقيقاً لمشهديتها السياسية ولفاعليتها الإعلامية والتعبوية.

"ليلة الرينغ"، انتهت بقليل من الهلع وببعض الرضوض والإصابات الطفيفة. كانت نموذجاً لصورة انتفاضة مواطنين ضد سلطة.

بعد أسبوع على تلك الواقعة، اختلف المشهد تماماً. لقد قرر "الطرف الآخر" من الرينغ، طرف الخندق الغميق، أن يحتل هو الجسر والفضاء العام. لقد خرجت مجموعات مستنفرة متجهمة ساخطة مفعمة برغبة الشغب. مجموعات تبدو عضلاتها المفتولة وذكوريتها موحية بميليشياويتها وبفوران الغرائز العدوانية. خرجوا هكذا بصيحات "شيعة، شيعة، شيعة" كأنما يستدعون ملاحم أسطورية من حروب دينية تلهب مخيلتهم لمعارك السيوف والخيول وقطع الرؤوس في البوادي والصحاري والقفار..

كان خروجهم وصداماتهم الدامية مع الجميع وضد الجميع، بوجه بضعة معتصمين

ارتسم الأفق اللبناني والسياسة اللبنانية على شفرة الصدام الطائفي. وذاك ما جعلنا نخلي مطرحنا عند جسر الرينغ، وفي ساحات وسط بيروت

في ساحتي "رياض الصلح" و"الشهداء" تنكيلاً بهم وتحطيماً لخيمهم، وبوجه قوات مكافحة الشغب.. لا فرق. وانتصروا في غزوتهم وكرهم وفرّهم. حققوا مبتغاهم: تهديد الدولة وتهديد المجتمع، ملوّحين باستعدادهم لسفك الدم، لإخراج أسلحتهم وإشعال الحرب.

تكررت موقعة "الخندق الغميق" ثلاث مرات. فارتسم الأفق اللبناني والسياسة اللبنانية على شفرة الصدام الطائفي. وذاك ما جعلنا نخلي مطرحنا عند جسر الرينغ، وفي ساحات وسط بيروت. وذاك ما جعل الانتفاضة اللبنانية مهددة بالنزاع الأهلي مجدداً.

توقف الضحك والرقص والتصفيق. صمتت حناجر الهتافات والآلات الموسيقية. انسحاب عمومي من الميدان على مدى عشرة أيام ماضية. اليوم، الأحد 22 كانون الأول، وبعد مهزلة تكليف حسان دياب تأليف حكومة تعيد إنتاج السلطة نفسها، سيكون أول امتحان أو أول محاولة لاستعادة الروح وتجديد الانتفاضة. اليوم المرتقب والمؤشر على مزاج اللبنانيين بين اليأس والاستكانة أو الرفض والتحدي والإصرار.