لنا الإمارة.. ولكم التجارة

2023.01.01 | 06:36 دمشق

لنا الإمارة.. ولكم التجارة
+A
حجم الخط
-A

دخلت سوريا مرحلة مفصلية في تاريخها الحديث بوصول البعث إلى السلطة، ويمكن أن نقول إن القصة بدأت عندما استدعت سلطات الانقلاب حافظ الأسد، الذي كان مبعدًا عن الجيش في فترة الانفصال، عقب انقلاب آذار 1963 مع مجموعة أخرى من الضباط المسرّحين والمعيّنين في وظائف مدنية، ورفِّع إلى رتبة مقدم، وفق تقليد عسكري متّبع في الجيش السوري، ليعين قائداً لمطار الضمير العسكري، وبعد عام بالضبط، رُفّع إلى رتبة لواء وعُيّن قائداً للقوى الجوية، وبعد حركة 23 شباط بقيادة صلاح جديد، عين وزيراً للدفاع، حيث أشرف في هذه الفترة على تأسيس المخابرات الجوية، التي ستغدو أقوى الأجهزة الأمنية، إضافة إلى إشرافه على المخابرات العسكرية، وهما الجهازان اللذان استخدمهما بنجاح في صراعه مع صلاح جديد.

من ضمن آليات السيطرة التي أنشأها حافظ الأسد بعد انقلابه عام 1970، اتفاقٌ غير مكتوب، تجسّد طيلة فترة حكمه، وهو اتفاق يضمن تولي النظام -بتركيبته العسكرية والأمنية- مفاصل السلطة وقراراتها وتحكمها، وخاصة الجيش والأمن والسياسة، مقابل ترك المجال التجاري بكل مدلولاته مفتوحاً للطبقة البرجوازية المتمركزة تاريخياً في المدن الكبرى، خاصة دمشق وحلب، التي تنتمي إلى الطائفة السنّية، وحتى السماح لها بتشكيل فضائها الاجتماعي والديني بما لا يخرج عن إطار الاتفاق، وهو عدم الاقتراب من قضايا السلطة، وتقديم الإتاوة المطلوبة مقابل تقديم الرعاية، باختصار يمكن تلخيص ذلك الاتفاق بالكلمات: لنا الإمارة.. ولكم التجارة.

سعى حافظ الأسد من البداية إلى كسب طبقة التجار (الطبقة البرجوازية)، ضمن سياسة الانفتاح التي انتهجها تجاههم وتجاه وسطهم الديني

ومعروفة مطالب التجار عند انقلاب حافظ الأسد، "طلبنا من الله المدد، فأرسل لنا حافظ الأسد"، وهي اللافتة التي علقوها على مدخل سوق الحميدية ترحيباً بحافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، حيث كانوا ينظرون إلى نظام صلاح جديد، بأطروحاته الشعبوية اليسارية المناصرة لمطالب العمال، كعقبة مناهضة لتوجهاتهم. سعى حافظ الأسد من البداية إلى كسب طبقة التجار (الطبقة البرجوازية)، ضمن سياسة الانفتاح التي انتهجها تجاههم وتجاه وسطهم الديني، فقدم لهم ضمن صيغة التعاقد المذكور التمثيل في مجلس الشعب ضمن فئة "باقي فئات الشعب"، وسمح لهم بالاستيراد والتصدير، وكل ذلك تحت الإشراف من دون التدخل المباشر.

لم يكن تحالف التجار بعيداً عن حركة العلماء المسلمين في المدن الكبرى، إذ يشكلون الداعم الأكبر لجمعياتهم التي تسعى لنشر الدعوة الدينية تحت ما يسمى بـ "دروس العلم"، والمقصود العلم الشرعي، من دون الاقتراب من شؤون الحياة اليومية، أي من السياسة كفعل يعبّر عن مطالب وهموم الناس وصراعاتهم. وعلى الرغم من دورها هذا في توجيه المتعلّمين والطلبة وجمهورها نحو الاهتمام بقضايا الدين والعلوم الشرعية، والابتعاد عن اتخاذ أي موقف تجاه ما يجري في البلاد؛ فإن تلك الجمعيات وحتى الخطباء لم تغب عن أعين أجهزة الأمن التي تخشى من أي تجمع أيّاً كانت صفته، فتقصي من ترى أنه يشذ عن القاعدة، وحتى من يصبح شخصية ذات إجماع ويتمتع بالاحترام في الوسط الديني، فهمّ الأجهزة الأمنية -الممثل الرسمي والحقيقي عن النظام- الإبقاء على شخصيات دينية ذيلية تبريرية، وتلميعها كشخصيات إسلامية أمام الجمهور العريض.

في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، خُرِقت هذه القاعدة نتيجة التمرّد الشعبي الذي تصدر الإخوان المسلمون لقيادته، وكانوا أحد الأسباب في إخماده إضافة لقمع النظام المتوحش، حيث انحاز قسم من التجار، ومعهم فئة من العلماء المسلمين إلى حركة التمرّد تلك، وخاصة في مدينة حلب، بينما بقيت تلك الفئة في دمشق، المعروفة ببراغماتيتها الشديدة منحازة إلى نظام حافظ الأسد، وهو الأمر الذي سهّل على نظام الأسد عزل الحركة عن محيطها وقاعدتها، وبالتالي القضاء عليها، وهي أولى المراحل الدموية في حكم حافظ الأسد التي أنهاها بتدمير مدينة حماة عام 1982، وإدخال البلاد بحالة من الركود السياسي والرعب الجماعي، لا يزال السوريون يدفعون ثمنه حتى اليوم.

مع تولي بشار الأسد السلطة في حزيران 2000 كوريث، ومع قوانين اللبرلة الاقتصادية التي أدخلها في البلاد (مصارف خاصة، شركات الاتصالات) وغيرها، قرر أن يكسر العقد الذي أرساه والده، وهو إفساح المجال الاقتصادي لفئة أخرى بشروط معينة، وأن يخضعه لنواة السلطة الصلبة، إذ لم تعد الإتاوة تكفي، فلا بد من الشراكة وحتى الاستملاك وإلحاق تلك الفئة به، من خلال توزيع الفتات عليها ضمن علاقة زبائنية جديدة، مفادها: الرعاية مقابل الولاء. ونتيجة لذلك، برزت شخصيات جديدة في عالم التجارة والصناعة، شخصيات لا تملك من الرأسمال سوى المنصب والانتماء العصبوي، وأهمها رامي مخلوف، الذي استولى بفترة من الفترات على معظم الاقتصاد السوري، موجهاً ضربة قوية للطبقة البرجوازية التقليدية، ومشجعاً على خلق طبقة جديدة، يعتمد ثراؤها على علاقتها وولائها للنظام.

حتى مجال الجمعيات "الخيرية" والدينية، لم ينجُ من التغيير، حيث تصدعت بعض منها، فخرج تيار منها يدعو لمقاومة النظام، وبقي التيار الأكبر يعمل تحت إشرافه داعياً إلى التجارة مع الله، التي يعدها أكثر أنواع التجارات ربحاً، وهذه لا يعلم بها إلا الله، فهو من يحاسب ويعاقب في النهاية. أما الجانب المهمّ من عمل تلك الجمعيات، فهو ترسيخ حالة الابتعاد عما جرى في سوريا، وعن الجرائم التي ارتكبها النظام بحق السوريين، وهنا يصبح الأمر، ليس ابتعاداً عن السياسة بمعناها التقليدي، وإنما خلق جيش أو بنية من بنى الاستبداد.

تصدرت عائلة الأسد الأعمال "الخيرية" كواجهة للنهب وتكديس الثروة، في خطوة تُذكر بأعمال التأميم في أواخر الخمسينيات، معلنين: "لنا الإمارة، والتجارة"

ومن ناحية أخرى، لم يتوان حيتان المال الجدد عن غزو هذا المجال، ففيه التجارتان، الأرباح والنهب، والزعم بأعمال الخير، فأسس رامي مخلوف جمعية البستان، التي انحصرت أعمالها بتمويل الشبيحة في أعمال القتل والاعتقال، ومساعدة عوائل قتلاهم، لكنه تحول بعد أن جردته راعية جمعية الأمانة للتنمية، أسماء الأسد، من أمواله وشركاته، إلى "داعية" ومبشر، ومنجّم أحياناً يدعو إلى الورع والتقوى، بينما تصدرت عائلة الأسد الأعمال "الخيرية" كواجهة للنهب وتكديس الثروة، في خطوة تُذكر بأعمال التأميم في أواخر الخمسينيات، معلنين: "لنا الإمارة، والتجارة".