"لم أستطع أن أصوِّر" إعلاميات على تخوم الصَدع

2023.02.23 | 06:37 دمشق

"لم أستطع أن أصوِّر" إعلاميات على تخوم الصَدع
+A
حجم الخط
-A

"صوّرتُ الخراب الذي حلَّ بالبيوت والشوارع. صورت نساء ورجال الإنقاذ وهم يقومون بعملهم. مراكز الإيواء التي أقيمت على عجل. لكني لم أستطع أن أصور الضحايا أو أهاليهم. قلبي لم يطاوعني أن أصور دموعهم بعد أن فقدوا عائلاتهم. حتى أني لم أستطع أن أصوّر أية مقابلة خلال الأيام الماضية" تقول راميا الأخرس المصورة والناشطة الإعلامية في شمال غربي سوريا. كانت راميا قد فقدت ابناً خلال حريق شبَّ في منزلها سابقاً، ولذا كان أول ما فعلته خلال الزلزال هو حماية وتأمين أبنائها. بجسمها لحظة الزلزال، وفي مكان آمن بعده.

"لم أستطع أن أصور". جملة سوف تكررها حرفياً إعلاميات سوريات، ممن تصادف أنني استطعت الاستماع إلى قصصهن وشهاداتهنَّ، عن عملهنَّ خلال وبعد زلزال السادس من شباط/فبراير. جميعهنّ كنَّ في وسط الكارثة، عشنها مع عوائلهن داخل المنزل الذي يتأرجح وتتشقق جدرانه، ثم مع الناس المرعوبين في الشارع، ممن نجوا بأرواحهم لكنهم فقدوا أحبتهم تحت الأنقاض. وبعدها في المشافي ومراكز الإيواء.

الحس الإنساني السليم لدى النساء الصحفيات العاملات خلال الكارثة، كان أقوى من إغراءات المهنة

يعرف الكثيرون ولو معلومات أوليّة عن أخلاقيات العمل الصحفي، ووجوب عدم تصوير الضحايا وذويهم، وكيف أن الإغراء المهني يدفع الكثيرين لمخالفة تلك الأخلاقيات في بعض اللحظات. بدا لي مما استمعت إليه، أن الحس الإنساني السليم لدى النساء الصحفيات العاملات خلال الكارثة، كان أقوى من إغراءات المهنة، وكانت أخلاقيات الصحافة حاضرة لدى النساء، ربما دون قصد منهن، بل بدفعٍ من غريزتهن السليمة. "قد يستطيع الصحفي الشاب أن يصور مثل تلك الحالات، لكن أنا لم أستطع" قالت إحداهن.

"من المؤسف أنه بعد يومين من الزلزال، لم تدخل أية مساعدات من معبر باب الهوى. الطريق الذي يقولون إنه متضرر، بدا صالحاً جداً لوصول وعبور جثامين مئات الضحايا من السوريين الذين قضوا جنوب تركيا، لكنه ليس صالحاً لدخول فرق الإنقاذ أو ما يغيث المنكوبين هنا" بهذه الكلمات، وبلغة إنكليزية طليقة، وقفت سارة قاسم وحدها عند بوابة معبر باب الهوى، وأدلت برسالتها. فيما بعد ستصف هذه المنطقة بأنها محرومة من أي شيء "بينما كانت الطائرات المحملة بالمساعدات وفرق الإنقاذ تحطّ بالعشرات في تركيا وهذا واجب طبعاً، كنا نبدو في شمال غربي سوريا وحيدين تماماً، وكأن العالم ينظر إلى منطقتنا كبؤرة ملعونة".

على مدى الأيام التالية كانت سارة ضيفة يومية لنشرات الأخبار على أهم الشاشات العالمية. لم تبدو كمراسلة تنقل ألم وكارثة الناس، بل كانت ابنة أصيلة لهذا الألم. هل كان لكلماتها ونبرتها وحزنها الحقيقي أثر؟ لا جواب لدي، ولا حتى لدى سارة. تقول "كل ما فعلته لا يشعرني بالرضا، ويكاد يخنقني أني لم أستطع أن أقدم شيئاً ملموساً لمساعدة المتضررين. كان لديّ صوتي، ولست متأكدة أنه كان كافياً".

راقبتْ سارة وصوّرت منقذي "الخوذ البيضاء" في أحد المواقع في جنديريس وهم يحاولون انتشال أحياء من تحت الأنقاض لساعات طويلة. لكنهم بعد كل ذاك الجهد العظيم والتعب انتشلوا جثامين فقط بسبب عدم وجود الآليات المناسبة. "بكيتُ من القهر ولم أستطع متابعة التصوير، ولا حتى البقاء في المكان" تقول سارة.

في مشفى حارم كان هناك طفلة صغيرة. مات أبوها وأمها تحت الأنقاض. كانت الطفلة تصرخ وتكرر نداءها: "يا ماما". أجل كانت تريد أمها. "كان يمكن إعداد قصة مميزة عن حالتها، لكني لم أستطع أن أصوّر كل تلك الضراعة والرجاء في عينيها وصوتها. كنت أختنق، أعدت الكاميرا إلى الحقيبة، واستدرت عائدة إلى البيت. ضممت ابنتي وبكيت" تروي الإعلامية حلا الأحمد ما جرى معها.

أضاعت لارا زعتور الأولويات وارتبكت، في لحظات الكارثة الأولى، بحسب تعبيرها. هل أساعد في عمليات الإنقاذ أم أذهب للتصوير؟ "مضت ثلاثة أيام قبل أن أعود لعملي الصحفي، وإعداد التقارير المصورة". كانت لارا قد صورت مقابلة لتقرير تلفزيوني قبل يومين من الزلزال. كان التقرير عن "جانا شيخ مصطفى". فتاة في الثانية عشر من عمرها، تشارك في دورة لتعلم عزف الكمان في جنديريس. كانت الفتاة سعيدة جداً بتصويرها وتنتظر متشوّقة، وتسأل في كل لحظة، متى سيظهر تقريرها على الشاشة؟ حتى جاء الزلزال. "كانت جانا مع والدها من ضحاياه، كما علمتُ من مدير معهد آريا للموسيقا. أما أنا فسقطتُ في بئر من الحزن. ماتت جانا ولم تشاهد تقريرها الذي انتظرته، بينما شاهده الآلاف بعد نشره في الأيام التالية، وسمعوا عن أحلام جانا وأوتار كمانها التي دفنها الزلزال".

كانت لارا قد فقدت بيتها الذي دُمر بفعل صواريخ نظام الأسد في مدينتها "كفرنبل" قبل أربع سنوات. ظنت من خلال ما عاشته في تلك السنوات أنها اعتادت كل الأهوال، لكن يبدو أن لحظة الزلزال كانت شيئاً مختلفاً عن كل ما عايشته: "اعتقدتُ أنه يوم القيامة. كان صوت الأرض قوياً ومرعباً، كان صوتاً غريباً ومختلفاً. شيء لم أسمع مثله في حياتي. صوت لا يمكنني وصفه إلا بأنه مرعب. مرّت دقائق حتى تأكدت أنني سأعيش، وأن الحياة لم تنتهِ بعد على هذا الكوكب".

"في الساعات الأولى من الكارثة عملت مراسلة لأهل قريتي" تقول راميا. كانت تأتيها الرسائل منهم لتطلب منها تفقد ذويهم النازحين المقيمين في سلقين، حيث تقطن. تنقَّلت بالسيارة مع أخيها من عنوان إلى آخر، لتوافي بتقريرها عن الحالة لمن سأل. أخبرتْ كثيرين بأن أبنية من يسألون عنهم كانت منهارة وأن ذويهم تحت الأنقاض، بصعوبةٍ فعلتْ ذلك، ولكن كان عليها أن تنقل تلك التقارير المأساوية عسى أن يتم تدارك الوضع. "كان أصعب عمل قمت به في حياتي" تقول راميا. "في واحد من الأبنية كانت صديقتي المقرّبة وأولادها وكامل عائلتها تحت الأنقاض، نزلتُ وبدأت أصرخ بأسمائهم بين الأحجار لكن أحداً منهم لم يرد. لم يكن لديَّ أي قدرة على تصوير أي شيء، رغم أن هذا عملي".

شجاعة النساء وقدراتهنَّ الشخصية، وعدم استسلامهن للظرف المحيط، هو العامل الأول والحاسم في وجودهنَّ في العمل العام عموماً

ولكن، لماذا خطر لي أن أتقصى لأكتب هذا؟ سأقول لكم. كنت قد أشرت في مادتي المنشورة قبل أسبوع، أن منظمة "الخوذ البيضاء" قد أتاحت مساحة أمان لعمل المرأة في ظلّ وضعٍ طارد لانخراط النساء في العمل العام. وهذا صحيح بالتأكيد، لكنه بدا لي بعد نشر المادة أنه جزء من الحقيقة فقط. شعرت أني ظلمت المرأة في تلك الجغرافيا الصعبة، حين أشرتُ أن تلك المساحة جاءتها من المحيط، وكأن لا شأن لها باجتراحها. بالتأكيد لم يكن هذا ما أردت قوله.

اليوم يتبدّى لي أكثر فأكثر أن شجاعة النساء وقدراتهنَّ الشخصية، وعدم استسلامهن للظرف المحيط، هو العامل الأول والحاسم في وجودهنَّ في العمل العام عموماً، وهذا ما ظهر خلال كارثة الزلزال خصوصاً. القصص التي استمعت إليها بأصوات راميا وسارة وحلا ولارا، لم تؤكد لي فقط القدرات الشخصية لهنَّ، بل والحس الإنساني العميق الذي يتحلّين به في عملهنّ. ولكن هل كان كل ما فعلنه صحيحاً بالمقاييس الصحفية الاحترافية؟ بالتأكيد لا، ولكنهنّ كنَّ "أمهات الصبي" وهو على وشك أن يتقطَّع. "في مركز الإيواء المؤقت كنتُ مرتبكة، هل أرفع الكاميرا وأصور ببرود كما يقتضي عملي الصحفي، أم أتقدم للمشاركة في مساعدة الناس؟ لم أستطع أن أصوّر. رحت أعمل مع الآخرين" تقول إحداهنّ.