لماذا يتمّ تقديم الساعة؟

2024.05.09 | 06:13 دمشق

74444444444444
+A
حجم الخط
-A

في منتصف 2011 كان مدير دورة الأغرار في مدرسة الاستطلاع قرب مدينة دوما هو الرائد ثائر. لم يكن سيادة الرائد شخصاً عادياً. فقد كان ضابطاً شديد الذكاء، متقنا لاختصاصه في الطبوغرافيا والجغرافيا البشرية إلخ. قال لنا أحد المساعدين، إن سيادة الرائد قد استطلع إسرائيل ومسحها شبراً شبراً، دون أن تلحظ إسرائيل وكل عيونها الأميركية والأوروبية والعملاء ذلك. وبعد أن قدّم تقريره لقيادة الأركان وأثبت عبقريته، خاف الضباط على مراكزهم من أن يحلّ محلّ أحدهم، فقرّروا تهميشه... أنتم تعرفون، الفساد يعرقل نهوض أمتنا، ويُبطء قرار التحرير.

ـ تحرير ماذا؟ سألتُ.

ـ تحرير الجولان. شو صارلنا ساعة عم نشرح يا زلمة.

ـ وما علاقة سيادة الرائد بقرار تحرير الجولان؟ سألت.

لكزني أحد المجندين الأصدقاء؛ لئلا أستمرّ في هكذا حديث، وأخطئ في كلمة أو تعبير، فأمضي بقية حياتي زاهداً متعبّداً في تدمر أو صيدنايا.

غالباً ما تنتهي أحاديث المساعدين عن تلك النقطة. لكننا بقينا على فضولنا في التعرّف على سيادة الرائد عن قرب أكثر. إلى أن حان الوقت واجتمعنا في درس الطبوغرافيا والمسح الجغرافي العسكري لمناطق العدو! نعم بتلك الفخامة اللفظية!

دخل سيادة الرائد وبدأ بمقدمة في الحديث عن الجغرافيا البشرية وتأثيراتها، إلى أن قال: حتى إنها تؤثر على التوقيت. انظروا مثلاً إلى تقديم وتأخير الوقت. ألم يسأل أحدكم نفسه، لماذا يتمّ تقديم وتأخير الوقت؟ رفعتُ يدي لأجيب، لكنه تجاهلني وتابع: لأننا هنا في سوريا مجتمع محافظ. فلكي نتيح للمرأة العاملة الخروج صباحاً مع بزوع ضوء النهار وليس في عتمة الليل، فتتعرض للتحرش أو السرقة لا سمح الله، جاءت فكرة تقديم الساعة وتأخيرها.

ذهلت لذلك التفسير العبقري، حتى إن يدي بقيت مرفوعة، وسيادة الرائد ينظر إلي شزراً وهو يشرح. توقف فجأة وقال: ـ شو يا تلميذ؟ وهي كلمة تطلق على الملتحقين حديثاً بالدورات العسكرية.

ـ سيدي، هي السعودية بلد محافظ أكثر منا، لماذا لا يقدمون التوقيت؟

ـ لأنك حمار. أجاب سيادة الرائد. ولك متقارن السعودية بسوريا ولا "كرّ"؟!. لك هي سوريا هي.

ـ طيب سيدي هي ألمانيا، بلد غير محافظ لا دينياً ولا اجتماعياً، ليش بقدموا الساعة؟

عندئذ صرخ في وجهي بشدة: ألمانيا ... ولك ألمانيا ... ولك عم تقارنا بالإمبريالية ولا "كرّ". هلق متشبّه سوريا الأسد ببلد متل ألمانيا؟! ولك أبتعرف أنو هاد بلد إمبريالي!

ـ أي طول بالك سيدي. أي شو عم شبه سوريا بالصومال، وبعدين معقول قارن بلد مثل ألمانيا بسوريا لا سمح الله. قلت ذلك في نفسي طبعاً، ولم أبُح بذلك الاعتراض حتى لا يتم إرسالي إلى السجن.

تَمْتَمَ سيادة الرائد قليلاً، ثم تأتأ محاولاً إكمال الشرح ولكن يبدو أن قريحته لم تسعفه، فرمى كُرّاسة الأوراق إلى الضابط المساعد وكان نقيباً وقال: خود أنت كمّل ... ، أبقا فيني أعطي، نزع لي مرائي هالحيوان، ثم خرج.

وقف النقيب متصدراً وقال: شوفو يا أبنائي الكرام. يعني هي نصيحة لوجه الله. يعني مو كل واحد بتمو خر... لازم يبزقا. كل واحد يحتفظ برأيو لحالو، أحسن وأسلم. شو ما أنصحكن؟ أحسن وأسلم. مشان ما حدا يترحم عليكن. وهلق رح نكمّل الدرس.

زفر زفرة طويلة وقال: ـ أي والله في كرار ـ جمع كرّ أعزكم الله ـ بتنزع نهار الواحد.

نادى المساعد وقال له: تعال وأكمل أنت الدرس. وإذا سأل الرائد عني، قلو أني بالحمام، وبعات عسكري يناديلي من الغرفة.

نفخ المساعد صدره، وبدأ بالصراخ والشتم على تطاولنا على سيادة الرائد:

ـ وهي زعل سيادة الرائد. يعني مين اللي خسران، انتو. والله الضباط كلها بتشتهي تحضر درس من دروسو. ولك وقت بيعطي درس بدورة ضباط الركن (وهي دورة خاصة برتبة العقيد والعميد)، الكل بيقعد ساكت وبيسمع. ليش؟ لأنو بدن يتعلموا، مومتلكن يا كرار.

ـ طيب يا حضرة، أكمل الدرس لو سمحت. قال أحد تلاميذ الضباط.

ـ ولك درس شو. هي طبوغرافيا بشرية هي. أنا أبقدر (لا أستطيع) أعطي بنص هالشوب. هي بدها تركيز، ومن شوي طلعنا من الغدا. .... ثم نظر إلى أحد التلاميذ وقال له: تعال هنت، انت معك بكالوريا ماهيكي؟

ـ أي طبعاً.

ـ معناتا، بتعرف تقرا. خود اقرا هالصفحة، واقعدوا بلا صوت. إذا ما سمعت صوتكن، رخ خليكن تناموا للعصر. وإذا إجا سيادة الرائد، فيّقني (أيقظني). ليكني نايم بالغرفة اللي جنبكن. أهم شي تناموا وما بدي حدا يسمع صوتكن.

ـ تكرم يا حضرة النقيب.

مساءً ذهبتُ كعادتي إلى مقسم الهاتف لأتصل بأهلي (وقد كان مدير المقسم متعاطفاً معي لكوني كبيرا في السن، ومتزوجا وعندي طفلان، فكنت أتصل بهم يومياً)، فاستوقفني الرائد على زاوية مبنى الضباط، ولم أكن منتبهاً له وقال:  وين داخل ولا "كر".

ـ نظرت إليه متفاجئاً، محاولاً إيجاد عذر لدخولي مبنى الضباط المناوبين. فأعفتني دهشته من الجواب، حيث قال لي: ـ ولك مو إنت الكرّ الي قعد يتفلسف اليوم؟

ـ نعم سيدي، بس سيدي بلاها كلمة كرّ هي، لو سمحت.

ـ ليش بقا؟ طيب حمار؟ بس والله أبتلبق عليك. أنت مبين فهمان.

ـ لا سيدي، بس أنا متجوز وعندي ولاد وكبير بالعمر.

ـ عندك ولاد. وشو ما تعمل هون؟

ـ هاد اسمو النصيب سيدي.

ـ بتعرف تلعب طاولة زهر؟

ـ أي سيدي.

ـ أي تعال اقعود لقلّك.

بدأنا بلعب الطاولة. والحقيقة أن سيادة الرائد كان ماهراً. وكانت أحجار المحبوسة تنساب بين أصابعه إلى أماكنها بسرعة ولياقة. ولكن ماذا يفعل حتى أكبر المهَرَة أمام غدر حجر النرد؟

عندما خسر، قلب الطاولة بعصبية بالغة مع شتائم فنية، يعرفها السوريون الذين أدوا خدمة العلم بشكل جيد، وقال لي: ـ ع السجن ... يالله ع السريع. أسبوع بالسجن.

ـ له يا سيدي. شو دخلني أنا. هاد الزهر الله وكيلك. الزهر غدّار، شو أعمل أنا.

ـ بلا مناقشة، أحسن ما حطك شهر بالسجن.

قبلتُ بعقوبة السجن لمدة أسبوع، ولم أُطل الجدال حتى لا يتمّ تمديدها. فكما يعرف كل السوريين؛ فإن دخول السجن سهل جداً ولا يحتاج إلى سبب أو تبرير، بخلاف الخروج منه. أدّيت التحيّة العسكرية، واستدرتُ ذاهباً إلى السجن. وبعد أن مشيتُ عدة خطوات، ناداني الرائد وقال لي: ـ شوف لقلّك، أنت مجوز وعندك ولاد، وأنا أبدي ضرّك (لا أريد أن أسبّب لك أيّ ضرر). رح أسألك سؤال، إذا جاوبتني عليه بصدق، بعفيك من عقوبة السجن، وبترجع ع المهجع (سكن العساكر التلاميذ).

ـ أي أمرك سيدي. اتفضل اسآل.

ـ هلق ليش بقدموا الساعة بألمانيا؟!