لماذا لم يشارك أهالي السويداء بالثورة؟

2024.05.21 | 06:38 دمشق

آخر تحديث: 21.05.2024 | 06:38 دمشق

77777777777777777775
+A
حجم الخط
-A

يحاول بعض السوريين التقليل من شأن حراك السويداء، ويوردون عدة حُجج ليبرهنوا على صحّة موقفهم: منها أنهم تأخروا ثلاث عشرة سنة فقط، ما يعني أنهم لم يشاركوا في الثورة السورية، وأنهم يراعون مصالحهم الخاصة دون اعتبار للمصلحة العامة التي تهمّ عموم الشعب السوري، ومنها أنهم لم يهتمّوا للمقتلة التي تعرّض لهم عموم السوريين، وبعضهم يخصّص السنة، سواء من باب التمايز عن الآخر الذي يمثله النظام ومنهم الدروز، أو من باب تعميم الغالب.

في بداية الاحتجاجات كانت استراتيجية الناشطين هي التوجه إلى المناطق ذات الكثافة العددية للمتظاهرين؛ سواء من حيث سهولة التجمع كالمساجد، أو سهولة التوجّه إلى نقاط التظاهر، حيث كانت الكمائن تنتشر من قبل الأمن والشبيحة، وإيجاد طريق للوصول إلى المظاهرة كان أمراً غاية في الصعوبة والتعقيد في ذلك الوقت. كما كان الناشطون يتخفّون ويتكلمون بأسماء مستعارة، لحماية أفراد عائلاتهم من الاعتقال.

وكان هذا مما ينطبق أيضاً على الناشطين والمتظاهرين الدروز. فقد كان الكثير من الأصدقاء يأتون من جرمانا وينتظرون أمام المساجد والخروج معنا.

في الفترة بين منتصف 2011 حتى أواخر 2012 ومع تطوّر الأحداث واستخدام الرصاص الحيّ من قبل الأمن، وملاحقة المصابين واعتقالهم من المستشفيات، أصبحت مهمّة تأمين اللوجستيات من مواد طبية وسيرومات ونقلها عبر نقاط النظام الأمنية والعسكرية من مهام أفراد الأقليات من الدروز والعلوية. واستغلّ ناشطو وناشطات السويداء قدرتهم على تخطّي الحواجز بحكم وضعهم كأقلية لدعم الحراك الثوري السلمي بشكل كبير في مخيم اليرموك، داريا، الهامة، القابون، الميدان والغوطة وغيرها من المناطق الثورية.

أعلن الشاب حسام ذيب ومجموعة من الشباب الدروز تشكيل كتيبة بني معروف في الغوطة الشرقية، وأعلن تبعيته للمجلس العسكري.

وشكلت حركتهم عبر الحواجز العمود الفقري لتأمين احتياجات المتظاهرين ابتداء من المواد الطبية مروراً بالأدوات الإعلامية من كاميرات وكمبيوترات حتى نَقْلِ الناشطين والمصابين بهويات أشخاص من أقربائهم ـ قبل أن تنتشر تقنية تزوير الهويات الاحترافية ـ عبر الحواجز الأمنية والعسكرية.

لا أدري كيف أصف شجاعة تلك الفتاة التي تتجرّأ على نقل مطلوب أمني أو مصاب في فترة 2011 ـ 2012 بين حواجز الأمن، أو تلك التي تنقل مواد طبية وتدخلها إلى المناطق الثائرة، وهي تعلم أن الموت أهون بألف مرة من اكتشاف أمرها واعتقالها! كما لا أدري سبب التقليل من شأن تلك الشجاعة والتضحية أو إنكارها، إلا ما وصفه نجيب محفوظ بأن آفة أهل بلدي النسيان، ونضيف هنا ربما النكران.

بعد التوجه إلى العسكرة وانتشار المقتلة السورية الجماعية، شارك الكثير من شباب السويداء في الدفاع عن سوريا وشعبها. ومرة ثانية آثروا الصمت حفاظاً على عوائلهم من انتقام النظام واعتقالهم من قبل أجهزة الأمن، كحال كثير من الناشطين والمنشقين في دمشق وريفها.

انشقّ العديد من شباب الدروز عن جيش النظام، رجع كثير منهم إلى الجنوب، وانضمّ بعضهم للجيش الحر. في كانون ثاني 2013 قرّر بعض الشباب الدروز العمل في العلن، كنوع من التنبيه إلى تلك النقطة ولفت الانتباه إلى أن الدروز حاضرون. أعلن الشاب حسام ذيب ومجموعة من الشباب الدروز تشكيل كتيبة بني معروف في الغوطة الشرقية، وأعلن تبعيته للمجلس العسكري، الكيان المفترض أن يكون نواة جيش سوري وطني في المستقبل. شارك شباب الكتيبة في المواجهات العسكرية ضد جيش الأسد في أصعب الجبهات وأقساها: جوبر ووادي عين ترما. وكانت مؤازراته تذهب إلى بساتين المليحة، فهم أبناء تلك المنطقة؛ لأن جرمانا ملاصقة للمليحة وهي جزء من الغوطة، وهم على خبرة ودراية ببساتينها. مع اشتداد الحصار ورغم الجوع والقصف واستشهاد الكثير من شبابهم، لم يتركوا ـ أو ما تبقى منهم ـ الغوطةَ، وشاركوا أهلَها مصابَهم.

أذكر في أحد الأيام وعندما أردتُ التوجه من دوما إلى جوبر، اتصلت بحسام، وبعد الاطمئنان عليه ـ حيث كانوا يقيمون في منطقة مساكن عين ترما التي كانت تتعرض لقصف يومي كثيف ـ سألته إن كان يحتاج إلى شيئ من دوما فأُحضِرَه معي. لم يتردّد ولا لحظة وقال لي: أي شيء يؤكل! لم أُصدم كثيراً من الجواب، فالمجاعة كانت قد عمّتِ الغوطةَ؛ صغيرَها وكبيرَها، ولكنّ الحَرَج كان في كيفية تأمين هذا الـ "الشيء" لأفراد كتيبة كاملة!

بعد التوجه إلى العسكرة وانتشار المقتلة السورية الجماعية، شارك الكثير من شباب السويداء في الدفاع عن سوريا وشعبها.

بعد جولة طويلة ظفرتُ فيها بالغنائم، توجّهت إلى عين ترما ومعي كيلوغرامين برغل كاملين! لم تُحزنني أجسادهم الهزيلة ووجوههم البائسة، فقد كان هذا حالنا إبان الحصار الأول، ولكن ما أحزنني هو إنكار بعضنا عليهم كل تلك التضحيات. فقد كانت بعض الفصائل تتجاهلهم وتتجاهل معاناتهم، رغم أنهم يقاتلون جنباً إلى جنب، ويرسلون لهم المؤازرات عند الحاجة، وأخصّ بالذكر هنا جبهة النصرة ولواء الإسلام (بتسميته القديمة آنذاك). فليس من الإنصاف أنْ تستعين بالكتيبة الـ "درزية"، وتطلب منها مؤازرة على الجبهة، تنفقُ فيها من السلاح والذخيرة والأرواح من حرّ مالها، يأتون به من التبرعات من السويداء والأردن ولبنان، ثم تتخلّى عنهم أو ترفض مساعدتهم عند اشتداد المجاعة، بحجّة أنهم غير مسلمين!

بلغ تعصّب جيش الإسلام مداه، بأن صادر شحنة أسلحة آتية إلى كتيبة بني معروف. كانت الحجة المعلنة أن الشحنة فُقدت على الطريق بجانب شحناتٍ عديدة. تكرّرت تلك الحوادث. قام حسام ذيب بتقديم شكوى رسمية للقضاء الموحّد، وكان الجواب: ومَن يستطيع إلزام جيش الإسلام بأي حكم قضائي، فيما لو صدر! وكان مما رواه حسام؛ أنّ زهران علوش رحمه الله تعالى استدعاه وأمره أن يسكت ولا يتحدث في تلك القضية مرة أخرى، والأفضل أن يخرج من الجبهة (جبهة القتال)، فمجاهدو الغوطة لا يحتاجونهم؛ لأن الله تعالى غنيٌّ عن الكافرين.

بعد سيطرة وتوغل جيش الإسلام على معظم الغوطة، أدرك حسام أن المشروع الوطني قد انهار. ترحّم على من مات في الغوطة دفاعاً عن أرضه وأهله. اعتذر ممن بقي منهم على سنوات التضحية التي أضاعوها في الغوطة، وشكرهم على شجاعتهم وغيرتهم، وخرجوا إلى تركيا.

في آخر مكالمة بيننا، وكان قد وصل تركيا، قال لي إنه سيهاجر إلى أوروبا. حطّت به الرحال في النمسا، حيث تعرّض لحادث سير وتوفي هناك. دُفن ودُفنت معه أحلامه وطموحاته، لكنه لحُسْنِ حظّه ـ أو لسوئه ـ لم يَرَ الانهيار السوري والتهجير الذي حلّ بأهلها، كما أنه لم يَرَ المجاهدين وقد استقلّوا البولمانات باحثين هم أيضاً عن وطن جديد.