لماذا طُوقتْ انتفاضة العشائر وما هو موقف واشنطن من مجمل الحراك؟

2023.09.19 | 17:27 دمشق

لماذا طُوقتْ انتفاضة العشائر وما هو موقف واشنطن من مجمل الحراك؟
+A
حجم الخط
-A

الملاحظ ومنذ اندلاع الاشتباكات بين العشائر العربية وميليشيات قسد في أرياف دير الزور وعلى مقربة من حمى قواعد التحالف، فأستطيع القول إنه لا يوجد أي شكوك لدى أي مهتم بأن واشنطن كانت غالبا وطوال هذه الفترة قلقة جدا من إمكانية توسع دائرة الاشتباكات، وانفلاتها من عقالها وتطورها وانعكاسها سلبا على تموضعاتها وقواعدها، بل ولحساسية المنطقة عسكريا وميدانيا ونتيجة لتزاحم أقدام وأطماع أصحاب النفوذ فيها أو بالقرب منها وأقصد هنا تموضعات الروس وميليشيات النظام وإيران، فإن خروج الأوضاع عن السيطرة سيشكل حتما خطرا داهما على كامل الوجود الأميركي في المنطقة ويضع المنطقة برمتها على برميل من البارود، وبالتالي ومن خلال المتابعة فقد كانت القوات الأميركية مستنفرة وتراقب بحذر شديد وساعة بساعة الوضع الأمني وتطوراته طوال فترة الاشتباكات التي اندلعت لما يقارب الأسبوعين بين حليفتها قسد التي تدير المنطقة كسلطة أمر واقع وبين أبناء العشائر العربية في مناطق وأرياف دير الزور، وعليه فإن واشنطن ولحسابات واعتبارات عدة واستنادا إلى العديد من الاجتماعات واللقاءات والتحركات الدبلوماسية مع أطراف النزاع فقد تمكنت بشكل أو بآخر من تطويق الأحداث الدامية التي وكما نعلم أسفرت عن وقوع عشرات القتلى والجرحى من الطرفين، والتوصل مع بعض شيوخ العشائر العربية وما يسمى بالإدارة الذاتية إلى التهدئة ووقف لإطلاق النار وفق شروط لاتزال بتصوري حتى الآن مبهمة وغير واضحة أو حتى إمكانية أن تكون منصفة، ولكن الواضح الوحيد فيها أنها مكنت ميليشيات قسد ومرتزقتها من استعادة توازنهم واستعادة أعتدة ومناطق كثيرة كانت قد خسرتها في بداية الاشتباكات وبالتالي إعادة انتشارها بشكل أقوى وأوسع في مناطق وبلدات دير الزور.

الأسباب الموضوعية التي أدت لفشل التحركات العشائرية الأخيرة وتطويقها:

لا شك أن التحركات والفزعات العشائرية الأخيرة ضد ميليشيات قسد والتي ومن الواضح أن من يسيطر على قراراتها ويرسم إيديولوجياتها ويحدد أهدافها هم قياديي جبال قنديل، ومتطرفي حزب العمال الكردستاني، وعليه فإن تحركات العشائر لا شك أنها كانت غير مفاجئة ومتوقعة وذلك بعد أن مارست تلك الميليشيات العنصرية الغريبة المرتبطة بنظام الأسد والمخابرات الإيرانية طوال سنوات ست مضت كل أنواع الحقد الدفين والتهميش والقهر والاضطهاد والاستبداد بحق أبناء المنطقة الحقيقيين من المكون العربي والعشائري. ولكن للأسف فإن هذه التوترات والاشتباكات طوقت وأخمدت ولم تستمر طويلا لتتمكن من الوصول إلى بعض أهدافها المرجوة وذلك أعزيه لعدة أسباب من أهمها:

  1.  لقد كانت هذه الانتفاضة المسلحة أشبه بالعفوية وغير مخطط لها بشكل كاف، وكانت عمليا تفتقد إلى التنظيم والقيادة السياسية والعسكرية المحلية الجامعة، بل وكما لاحظنا تم الاكتفاء والرجوع إلى ما يسمى بخيمات ودواوين الحرب وذلك للاستعراض والخطابات والضيافة وليس لتحقيق هدف أسمى وهو قيادة العمليات العسكرية وإدارة المعارك.
  2. إن هذا الحراك والاشتباكات مع ميليشيات قسد اقتصرت حقيقة الأمر على بعض عشائر دير الزور وكأنهم هم الوحيدون الذين يعانون من ممارسات قسد وظلمها، ولم يكن هناك بالمطلق أي مساندة عشائرية واضحة أو مقنعة وضاغطة وخاصة من قبل العشائر المنتشرة في الرقة والحسكة، بل وعلى العكس تمكنت قسد من حشد بعض المتمشيخين المرتزقة من عشائر شمر وطي وحضتهم كما تابعنا على إصدار بيانات شجب لهذه التحركات ووصفها بالفتنة التي يقودها ويغذيها النظام وإيران.
  3. إذا أتينا وبنظرة سريعة على مقارنة القدرات العسكرية والتسليحية التنظيمية، والإمدادات واللوجستيات وفارقها بين الطرفين، فإن جميعها تأتي لصالح الميليشيات الكردية التي تمتلك الأفضلية المطلقة وذلك نتيجة امتلاكها إلى جانب التنظيم والتدريب والقيادة ترسانات من الأسلحة والعتاد الأميركي الحديث، مثل عربات "الهامفي والهمر" ومدافع الهاوتزر" وغيرها والتي تتميز جميعها بالقدرات النارية الكبيرة والمناورة العالية، في حين أن أبناء العشائر اقتصر تسليحهم في أحسن الحالات على السلاح الفردي، كبنادق الكلاشينكوف وبعض رشاشات الـ ب ك س، وقواذف أر ب ج 7 وبعض عربات الدفع الرباعي.
  4. لاشك أن ميليشيات قسد شعرت مسبقا بسبب الخلافات المتفاقمة مع قيادة مجلس دير الزور العسكري واعتقال المدعو أحمد الخبيل باحتمالية القيام بتحركات عشائرية مسلحة مناهضة، ولذلك قامت بالإسراع لكسب المبادرة والأفضلية الميدانية في مناطق وبلدات دير الزور من خلال إطلاق عملية عسكرية سمتها (حملة تعزيز الأمن)، حيث ادعت قسد في بيان لها أن هذه العملية تستهدف خلايا تنظيم داعش، بالإضافة إلى تعقب المجرمين والمهربين وخلايا تتبع للنظام وميليشيات إيران عبرت حسب قولها إلى شرقي الفرات، وعليه فإن هذه العملية الاستباقية أعطت ميليشيات قسد القوة والقدرة الميدانية على تنظيم الصفوف والانتشار على الأرض قبل بدء تفاقم الانتفاضة العشائرية ضدها، وبالتالي أعطتها القدرة أيضا على سرعة التحرك لمسك زمام الأمور وإعادة الوضع إلى ما كان عليه.
  5. للأسف لم يقم أبناء العشائر في الرقة والحسكة أقلها بمحاولات قطع طرق الإمداد والتضييق على تحركات قسد لمنعها من إرسال تعزيزاتها إلى مناطق دير الزور والانفراد بأهاليها، هذا ناهيك عن الانشقاقات القليلة الخجولة وغير المؤثرة لأبناء المنطقة عن قسد، لا بل حتى إن معظم القتلى الذين سقطوا في المواجهات في صفوف الميليشيات كان غالبيتهم من المكون العربي والعشائري.

ماهية الدور الأميركي:

في الواقع يدرك التحالف والولايات المتحدة تحديداً، مكانة العشائر العربية في المنطقة وخاصة عشيرة العكيدات والشعيطات والبكير، وبالتالي فواشنطن بالذات لا تريد ولا ترغب بمزيد من التوترات في شرق وشمال شرقي سوريا، وخاصة أن العشائر لا تزال الورقة الرابحة التي تعول عليها ويمكن أن تستخدمها مستقبلاً ضد ميليشيات إيران المنتشرة في البادية الشامية والجانب الآخر من الفرات. ولكن للأسف ومع ذلك فإن واشنطن ومنذ دحر تنظيم داعش نهائيا 201‪9 وسيطرتها مع قسد على مناطق شرقي الفرات وحتى الآن فإنها لاتزال ماضية في رؤيتها الخاطئة وتقديراتها لطبيعة المنطقة العشائرية، ولاتزال حتى الآن تمارس سياسة ذر الرماد في العيون من خلال الوصول إلى مقاربات فاشلة عقيمة لا تسمن ولا تغني من جوع، والوصول مع قسد وبعض شيوخ المنطقة ومتمشيخيها الذين لا يمثلون لا من قريب أو بعيد الثقل العشائري الحقيقي في المنطقة إلى مقاربات غير مرضية جديدة تقضي بعد التوترات والاشتباكات الأخيرة وفي أحسن الأحوال ربما إلى التحسين الجزئي وغير المقنع للواقع المعيشي والخدمي والإداري، وإعادة صياغة وهيكلة شكلية لمجالس مدنية وعسكرية صورية بأثواب ووجوه جديدة، والالتفاف الصريح والمتعمد على المطالب الأكثر أهمية من حيث إبقاء مقاليد إدارة المنطقة وقراراتها المدنية والعسكرية المهمة بيد قسد والمتعاونين معها كموظفين من أبناء العشائر، متناسية وأقصد "واشنطن" بشكل أو بآخر معالجة أس وأساس المشكلة التي تقول إنه لا يمكن وبالمطلق لميليشيات قسد ومرتزقة وعصابات قنديل الغريبين في كل شيء عن المنطقة وأهلها طال الزمان أو قصر من إمكانية إدارة المناطق ذات الصبغة العربية والعشائرية والتحكم بها بعيدا عن مشيئة وإرادة أصحابها، وبناء على ذلك  فها هي صحيفة "فورن بوليسي" الأميركية وفي مقال لها أشارت إلى "أن الانتفاضة العشائرية رغم أنها على ما يبدو قد هُزمت (خذلت)، إلا أن تأثيرها وانعكاساتها المستقبلية ستكون كبيرة، ومن المرجح أن تدفع التجربة المشتركة في القتال ضد عدو مشترك العائلات والعشائر والقبائل في دير الزور التي لديها تاريخ سابق من النزاعات والخلافات إلى وضع خلافاتهم جانباً للتركيز على الهدف المشترك المتمثل في الانتقام واستعادة حقوقهم". وبناء عليه فكل الوقائع والمعطيات واستقراء القادمات تشير لا محالة إلى أن الأمور لن تعود لسابق عهدها إذا لم ترضَ العشائر وتدير مناطقها بشكل فعلي وحقيقي، ولا شك أن ما بعد هذه الانتفاضة لن يكون كما قبلها، وأن النار ستبقى متقدة تحت الرماد، وستأتي ربما وذلك ليس ببعيد على الأخضر واليابس في منطقة شرقي الفرات خاصة أن هذه المنطقة الاستراتيجية الغنية بثرواتها البترولية والغازية والزراعية تشهد ازدحاما بالطامعين والمتضادات من أصحاب النفوذ.