لا شك أن روسيا منذ عام 2011 ومع بدايات الثورة السورية قد وقفت بقوة ضد مساعي السوريين لإسقاط حكم النظام السوري، أو حتى تشكيل أي تهديد قد يزعزع أركانه واستقراره.
ومن أجل هذا الهدف وأهداف استراتيجية أخرى تهم الروس في سوريا والمنطقة استخدمت موسكو القوّة العسكرية والدعم الاقتصادي والعسكري والنفوذ الدبلوماسي، ولا سيما حق النقض الفيتو الذي استخدمته 17 مرة في مجلس الأمن للحيلولة دون صدور أي إدانة لنظام الأسد على الجرائم والمجازر المخزية التي ارتكبها بحق الشعب السوري.
وعليه فإن روسيا ومنذ نهاية أيلول 2015 وهو تاريخ تدخلها المباشر في سوريا قد استفادت كثيرا من حضورها وتدخلها الدامي في الأراضي السورية، وحصدت العديد من النتائج المخطط لها في أول تحرك عسكري كبير لها خارج حدودها ومحيطها الجغرافي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي 1991 فهي من الناحية الأولى نجحت إلى حد كبير وبحجة تدخلها "الشرعي" لمكافحة الإرهاب وبإجرامها في هدفها الأساسي والمتمثل بالعمل على إجهاض الثورة وإنقاذ النظام الأسدي المجرم من السقوط المدوي وتمكين قواته ومرتزقته من الصمود، وسعيها بكل الأساليب الدموية لاستعادة السيطرة الميدانية على غالبية الأراضي والمناطق الخارجة عن سيطرة حكومة الأسد منذ بدايات الثورة السورية.
وبالتأكيد ولتحقيق هذا الهدف فقد قامت موسكو باستقدام واستعراض ترساناتها وقوتها العسكرية واستخدام واختبار أسلحتها الفتاكة على أجساد السوريين وممتلكاتهم من خلال سياسة الأرض المحروقة، وتوجيه ضربات جوية إجرامية كثيفة للثوار وللبنى التحتية والمراكز الحيوية المدنية كالمدارس والأسواق والمستشفيات، وارتكابها لعشرات المجازر بحق السكان المدنيين، ناهيك عن مهزلة مناطق تخفيف التصعيد الأربعة التي اخترعتها وفرضتها في محادثات أستانا عام 2017 ولم تلتزم بها كضامن وعملت على تهجير سكانها وقضمها الواحدة تلو الأخرى، اعتبارا من وادي بردى والغوطة، وصولا لأرياف حماة وحلب وكثير من المناطق الأخرى.
عمليا، عملت روسيا منذ قدومها إلى سوريا على تقوية بنية النظام المتهالكة من خلال تعزيز مراكز السلطة فيه، ومحاولات إنهاء التشكيلات الميليشياوية التي اعتمد عليها النظام في عمليات القمع، كما عملت جاهدة وعلى مستويات عدة لإحداث تغييرات كبيرة في بنية وهيكلية الجيش وتقويته والنفوذ في بعض تشكيلاته، وذلك من خلال توريد شحنات الأسلحة المتنوعة الحديثة التي في الواقع لم تقبض أثمانها وحولتها إلى ديون بعيدة الأجل لتحصيلها لاحقا من خلال مزايا واتفاقيات تضمن بها أهدافها ومصالحها البعيدة في سوريا والمنطقة.
كما أنها استحدثت مجموعات محلية وفرقا وألوية جديدة -كالفرقة الخامسة- واللواء الثامن في الجنوب وسلحتها وأشرفت عليها بشكل مباشر. لكن الواقع يقول إن هذه الجهود مجتمعة ورغم مرور الزمن فإنها لم تُحقق الكثير من التغيير الذي تأمله وتريده موسكو في بنية النظام وهيكلة قواته المسلحة ونفوذها فيه. خصوصا مع وجود التأثير الإيراني الكبير الذي بدأ بالتوسع والتمدد أكثر في السنوات الأخيرة، في ظل انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا والخسائر الفادحة التي تتكبدها هناك، وبالتالي وبالاستناد إلى العديد من المعطيات الميدانية فقد تراجع دور موسكو العسكري نسبيا في الملف السوري الداخلي مع ورود العديد من الأنباء التي تفيد بأن الروس في الفترات الأخيرة يقومون بشكل دوري بإخراج بعض عتادهم وجنودهم من المواقع الكثيرة التي يشغلونها في سوريا ونقلهم إلى جبهات القتال المتعددة مع أوكرانيا، وبالتأكيد يأتي هذا مترافقا مع استغلال إيران وميليشياتها وحزب الله انشغال روسيا بغزوها لأوكرانيا ومحاولة التوغل في المؤسسات العسكرية والاقتصادية للنظام، وتمددهم وبسط سيطرتهم في مناطق ومواقع تعتبر من ضمن النفوذ والتواجد الروسي في مناطق متفرقة من سوريا.
لكن ورغم التعتيم الروسي فالمعلومات والتقديرات تشير إلى أن هذه التحركات تجري بمعرفة ورضا موسكو وحتى بالتنسيق معهم بحجة منع الفصائل المعارضة للنظام من السيطرة على هذه القواعد.
قامت موسكو باستقدام واستعراض ترساناتها وقوتها العسكرية واستخدام واختبار أسلحتها الفتاكة على أجساد السوريين وممتلكاتهم.
في الواقع وعلى الرغم من كل العقبات والصعوبات، فالملف السوري بحد ذاته يشكل بالنسبة لروسيا رصيدا قيما وهاما يمكن استخدامه في أية مفاوضات محتملة مع الغرب وتركيا وإيران وإسرائيل، وبناء على ذلك ورغم كل شيء فمن الواضح أنه ليس لدى روسيا أي خطط قريبة أو بعيدة لمغادرة سوريا، على الرغم من تراجع نفوذها وحجم وجودها العسكري الملحوظ فيها، فموسكو من ناحية ترى في وجودها الميداني في سوريا مكسبا عسكريا وقاعدة روسية مركزية للتوسع والتمدد في الشرق الأوسط والذي سيتيح لها العمل المتواصل على تقويض النفوذ الغربي المتنامي في هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة، ناهيك عن أن الملف السوري بالنسبة للرؤية الروسية هو ورقة مساومة في أية حوارات محتملة مع العديد من القوى الإقليمية النافذة في الشرق الأوسط، إضافة إلى الدول الغربية.
من ناحية ثانية فإن موسكو بعد تحقيقها الشيء المراد تقريبا في سوريا ولانشغالها التام في الحرب الأوكرانية فربما أصبحت بشكل أو بآخر وأقلها في هذه الأوقات غير راغبة بشكل متزايد بالتدخل في الشؤون الداخلية السورية سواء على الصعيد العسكري أو الاقتصادي المالي، وبدلا من ذلك فقد باتت تركز على محاولات إقناع أصحاب النفوذ بعدم تصعيد الوضع العسكري، والحفاظ على تثبيت نقاط السيطرة والنفوذ لجميع الأطراف، إذ إن موسكو في نهاية المطاف تحرص على الحد من تشتيت جهودها وتركيزها عن حربها في أوكرانيا، والتي تمثل أولوية عسكرية وخارجية بالنسبة لها، بالإضافة أن هذه الحرب باتت تستهلك غالبية مواردها الاقتصادية تقريبا، ولكن في المقابل يركز الكرملين على الحرص والانتباه على وجوب استعادة الدور الروسي أو على الأقل غالبيته في الملفات الهامة للمنطقة والمرتبطة بشكل مباشر مع الملف السوري الذي تأثر حقيقة بوضوح بعد نشوب الحرب في أوكرانيا.
تحرص روسيا على البقاء في سوريا واتخاذ دور محوري معترف به دوليا يؤمن لها ترتيب مسار الحل السياسي فيها حسب رؤيتها وقدرتها.
ختاما، لا شك أن روسيا في إدارتها للملفات الأكثر أهمية التي تتنفذ فيها تريد الموازنة ما بين الحرب التي تخوضها في أوكرانيا ومتطلبات هذه الحرب الاقتصادية والسياسية والميدانية، وما يتمخض عنها من صعوبات، وما بين ضرورة الحفاظ على النفوذ والتحكم بالملف السوري رغم كل الخسائر والتحديات والعقبات التي تقف في وجه هذا الأمر، وخاصة أنه بات من الواضح أن الأزمة والحرب الأوكرانية أثرت على الملفات المشتركة بين موسكو وواشنطن والغرب، ومنها بالطبع الملف السوري، وبالتالي فلا شك أن هناك تأثيرات سلبية واضحة على ملفات هذه المنطقة بين الجانبين.
وخاصة إذا علمنا أن غالبية هذه الملفات العالقة بينهما يتم استخدامها واستثمارها كأدوات للضغط بُغية الوصول إلى ما يمكن تسميته بـ المقايضات الجيوسياسية، وهذا بدوره يدلنا حقيقة على حرص القيادة الروسية على البقاء في سوريا واتخاذ دور محوري معترف به دوليا يؤمن لها ترتيب مسار الحل السياسي فيها حسب رؤيتها وقدرتها.
وهذا ما يعد حسب تصور الكرملين خطوة متقدمة نحو الهدف الاستراتيجي المتمثل في العودة من البوابة السورية الواسعة إلى الساحة الدولية ضمن نظام متعدد الأقطاب، يؤدي إلى كسر الهيمنة الأميركية على مقاليد النظام الدولي بما يضمن لروسيا التأثير في المعادلات الإقليمية والدولية والفعل فيها.