لعنة الانتماء

2020.01.17 | 16:24 دمشق

501.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل أن يكون للإنسان اسم خاص يميزه عن غيره، كنى بنو البشر بعضهم بأسماء المناطق التي ينتمون إليها أو بأسماء قبائلهم وأنسابهم الممتدة.

عرفت البشرية في وقت ما أيضاً الهجرة والتنقل من مكان إلى آخر طلباً للأمن والمأكل والمشرب، فلم يُتح للإنسان البقاء في المكان الذي يعد مسقط رأسه، فباتت الألقاب دليلاً لتحديد الوجهة التي قدم منها، وفي الوقت ذاته ازداد ولاء الإنسان للمكان الذي ينتمي إليه بفعل الوراثة، وأصبح في بعض الأحيان مدعاة للفخر والتندر به في القصائد والحكايات التي تنتقل على ألسنة الرواة.

الأمر لم يكن مختلفاً في عصورنا الحديثة، فما زال الإنسان في مجتمعنا المعاصر يفخر بنسبه ويعرف نفسه به "أنا فلان من المكان الفلاني"، أو يعرفه الآخرون أيضاً من خلاله "فلان بن فلان" يرجع نسبه إلى الجد فلان.

وذهب كثيرون إلى أبعد من ذلك فكان يكفي الشخص أن ينتمي إلى مكان معين أو طائفة أو عائلة بعينها، ليكون محط تقدير أو مدعاة لفخر، أو حتى لاستعراض أمجاد لم يكن هو فاعلاً بها.

نتج عن الفخر بالانتماء في بعض الأحيان بعض العداءات المناطقية والطائفية، وكان ذلك نتيجة طبيعية للتربية التي تحث على الشعور بالفخر والزهو نتيجة للانتماء، فكنا فاعلين بوعي أو من دون سواء أردنا أو لم نُرد بتأجيج تلك العداءات أو بالعجز عن حد الخلاف الناجم عنها.

لقد ساهمت حلقات المجتمع على اختلافها وتتابعها بشكل أو بآخر بترسيخ تعظيم فكرة الانتماء، فعملت الحلقات الأسرية الصغيرة على أدلجة الإنسان وتفخيم انتمائه، وتحول الأمر في بعض الأحيان إلى عقدة تفوق ممارسها ضد أقرانه الذي يعتبرهم أقل منه قدراً وشأناً.

اعتقد بعضنا أن مجيء الثورة السورية التي كسرت التابوهات ونادت بالمساواة، سينهي زمن الاقتتال المبطن والمنافسة الخفية بين مكونات المجتمع.

لكن النتيجة لم تأتِ على قدر التمني إذ أننا على  الرغم من الادعاءات بأن الجموع خرجت من عباءة الطائفية ولو بشكل نظري، ما زال أغلبنا ينضوي تحت عباءات أخرى مناطقية أو عائلية أو حزبية أو في أسوأ الأمور عباءة التوافق في الرأي.

وعلى ما يبدو أننا في هذه القضية كنا قد حملنا الثورة أكثر مما تستطيع تحمله، فهي كانت حصيلة تراكمات عقود ضد استبداد سياسي وظلام فكري وتوعوي، لم نكن في وقتها في حالة تسمح لنا بالانتباه والتيقظ للتآكل الاجتماعي الذي وصلنا إليه قبل اندلاعها، وبالتالي لم يكن باستطاعة الثورة أن تكون حلّاً وعلاجاً للآفات السياسية والاجتماعية والإنسانية كلها التي كنا نعاني منها.

اعتقد بعضنا أنَّ مجيء الثورة السورية التي كسرت التابوهات ونادت بالمساواة، سينهي زمن الاقتتال المبطن والمنافسة الخفية بين مكونات المجتمع

لكننا وفي مراجعة سريعة للمشكلات التي تكشفت لنا عبر ما يقارب عقداً من الثورة والفجوات الفكرية التي نعاني منها، يتضح أننا بحاجة ماسة إلى ترميم القيم الاجتماعية بداية والانتقال منها إلى تعزيز شعور المواطنة والمساواة أمام القانون وأمام المجتمع أيضاً، كخطوة أولى للتخلص من الرواسب التي علقت في تفكيرنا من أمثال الاعتداد بالانتماء أو الفخر بالنسب واعتبارهما يشكلان ميزة نسبية لنا على الآخرين الذين لا يمتلكونهم.

في اعتقادي كمواطن بسيط عانى من الاستبداد ومن ثم من التهجير، ما زال المجتمع بحاجة إلى كثير من الوقت والجهد من أجل ترميم قماشه الرث، وبشكل موضوعي نحن بحاجة إلى تهميش ثوابت اجتماعية عفا عليها الزمن وكانت سبباً في اختلاق أسباب تفرقة وعداءات سطحية، وبناء قيم وثوابت أخرى تعمل على تأسيس مبدئي الإنسانية أولا والمواطنة ثانياً.

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هل الانتماء يتعارض مع مسألة الاستقلالية والوعي أم أنه مسألة شعورية والاستقلال حالة عقلانية والمفهومان غير متداخلان بالضرورة؟؟

الإجابة هنا ليست هي المعضلة الوحيدة المعضلة التي قد تواجهنا ونحن في إطار العمل لتشكيل مؤسسات ديمقراطية متكاملة، ذلك أن خياراتنا التي يكون انتماؤنا هو المحدد الوحيد لها قد تتنافى مع مبدأ الديمقراطية في حال كانت الغلبة لمسألة الانتماء في مقابل مسألة الجدارة أو الاستحقاق إذ أن خياراتنا وفقاً لهذا المبدأ تكون مبنية على أسس ذاتية أكثر منها موضوعية.

المشكلة الحقيقة التي نعاني منها ليست بالانتماء أو عدمه أو تمسكنا أو عدم تمسكنا به، المشكلة ألا يغلبنا ذلك الانتماء ويطيح بالمعطيات الأخرى التي تعزز محاكمتنا العقلية، وألا يكون له درجات علوّ تجعلنا نعتقد بامتلاكنا أفضلية على غيرنا، ما يتيح لنا اعتبار أنفسنا أصحاب حقوق ممنوعة على الآخرين، لأنه وبشكل بسيط ليس للإنسان أن يفخر بشيء لم يكن من صنعه أو أن يمنحه ذلك الشيء ميزات تفضيلية على أقرانه ثانياً.

ويبدو أن هذا الأمر ما زال بعيد المنال حالياً ليس بسبب التراكمات الاجتماعية فحسب، وإنما بسبب الفجوات النفسية التي عانينا ومازلنا نعاني منها بعد أن تزعزعت كثير من الثوابت التي كنا لا نقبل التشكيك بها، وأثخنت أرواحنا بجراح وهزائم واحدة تلو الأخرى، فقدنا بسببها بوصلتنا وإيماننا بإنسانيتنا، وأصبح انتماؤنا هو سبب وجودنا الوحيد، أو القشة التي تجعلنا نتعلق بالعالم، أو تزيد من إيماننا بأنفسنا على أننا كائنات حقيقية وموجودة.