icon
التغطية الحية

"لزوم ما لا يلزم" لتوفيق الحكيم .. مسرحية أمراضنا المزمنة

2021.01.25 | 16:17 دمشق

mfhwm_almsrh_aldhhny.jpg
توفيق الحكيم
القاهرة - سهير أومري
+A
حجم الخط
-A

أحد رواد الرواية والكتابة المسرحية العربية، "توفيق الحكيم"، ابن النيل الذي تربع على قمة ما عُرف بالمسرح الذهني، وهو المسرح المقروء الذي تبحر فيه بين الكلمات، فتغوص في معانيه مكتشفاً عمق الدلالات والرموز، وتسقطها على واقعك، فتتبصر حقائق النفس وأبعاد الحياة، على نحو يجعل مسرحيته صعبة الأداء على المسرح، إذ تكمن روعتها في القراءة أكثر من التمثيل، ولعل من أبرز ما جسده في هذا المضمار مسرحية "لزوم ما لا يلزم".

انعكاس حقيقي لمجتمعاتنا

مسرحية مبتكرة على قصرها تستحق الوقوف عندها، جعلها الحكيم على ثلاثة مشاهد حوارية، باللهجة العامية المصرية، ويكمن الابتكار فيها بأن جعل الحوار في المشهد الأول كلمة واحدة، وفي المشهد الثاني كلمتين، وفي الثالث ثلاث كلمات.

 وهكذا تجد نفسك تبتسم وأنت تقرأ، مستشعراً قدرة الكاتب الإبداعية على إيصال المعنى، وتداول الحوار بين الشخصيات، مستعيناً بعلامات التعجب والاستفهام التي نابت عن عبارات كاملة وجمل طويلة لوصف الحركات وتعابير الوجوه ومشاعر الشخصيات.

اقرأ أيضاً: الفن المسرحي بين العتمة الإبداعية والعتمة القمعية

مع "لزوم ما لا يلزم" ترى وجهاً حقيقياً لمجتمعنا بلا زيف ولا أقنعة، وتتلمس عمق التشوه الذي نلزمه ويلازمنا في قضايا تتركز على ثلاثة محاور: نفسية وفكرية واجتماعية، إذ تناول لكل محور منها قصة بسيطة بفكرتها عميقة بمدلولها، متدرجاً من الداخل إلى الخارج، أي: من النفس، إلى الفكر، إلى المجتمع، مشيراً لعمق هذا التشوه بعدد كلمات الحوار.

فيبدأ الكاتب مع التشوه النفسي بكلمة واحدة، ثم التشوه الفكري بكلمتين، ثم الاجتماعي بثلاث كلمات وكأنه يقول: إن رحلة التشوه التي تعبر النفس والفكر وصولاً للمجتمع تجعله تشوهاً مركّباً معقداً عصياً على العلاج.

المحور النفسي

ثلاث قصص تحدث في مكان واحد وهو قسم الشرطة، إذ يستقبل المحقق ثلاث حالات يجسد كل منها مشكلة، فيحقق مع أصحابها، متتبعاً أسبابها، ومع اختلاف هذه المشكلات إلا أنها تشترك بأثر سلبي يشكل حجر عثرة أمام عقلنا الجمعي للوصول إلى مجتمع سليم معافى.

يضعنا الكاتب أمام مرآة صافية نرى فيها أنفسنا في كل موقف نرفض فيه الحقيقة المُرّة، ونفضّل عليها الوهم المريح، ولو تطلب ذلك منا أن نؤذي الآخرين، المهم أن نكسب الجولة، ونعيش الراحة المزيفة

البداية مع المحور النفسي وخداع الذات واعتناق فن الإنكار، حيث يضعنا الكاتب أمام مرآة صافية نرى فيها أنفسنا في كل موقف نرفض فيه الحقيقة المُرّة، ونفضّل عليها الوهم المريح، ولو تطلب ذلك منا أن نؤذي الآخرين، المهم أن نكسب الجولة، ونعيش الراحة المزيفة، ولو كانت محدودة الزمن سيئة العواقب.

يدخل قسم الشرطة مجرم قتل طبيبه لأنه صارحه بمرضه الخطير، وأخبره أن عليه الالتزام بالحياة الصحية من ترك للتدخين، وشرب للكحول، ونوم متأخر، الأمر الذي رأى فيه المريض قتلاً لأمل الحياة في نفسه، وتركاً لكل ما هو جميل في نظره، فما كان منه إلا أن هجم على طبيبه فخنقه.

اقرأ أيضاً:  أدب المخابرات ومسلسل التنفيس في سوريا

 ويذهب الحكيم هنا في أفق فنتازي، فيُرجع الطبيب المقتول للحياة كشاهد على الجريمة، ويدور حوار ساخر بين الطبيب والمريض ليكرر الأخير تهديده لطبيبه إن أصرّ على تشخيصه السابق فإنه سيقتله من جديد.

وهكذا إلى أن يقتنع الطبيب بالعدول عن مصارحته، وتغيير أقواله، والتظاهر بأن تشخيصه كان خاطئاً، وأن صحة المريض جيدة، وليس عليه أن يغير شيئاً من عاداته أو أسلوب حياته، ثم يطلب المجرم والضحية إلغاء البلاغ، الأمر الذي لا يقنع المحقق بل يدفعه لسجنهما معاً.

المحور الفكري

 ينتقل الكاتب مع المشهد الثاني إلى المحور الفكري، فيتوقف مع مهارتنا الموروثة في الحكم على الآخرين بناء على الظاهر، متعقباً وبشكل غير مباشر الجذر الديني لهذه المعضلة التي توارثناها معتمدين على ظاهر النص تاركين روحه ومقاصده وهدفه.

وهنا، نشاهد في قسم الشرطة شاباً ذا شعر طويل يتبعه حلاق يحمل المقص يريد أن يقص شعره، متهماً الشاب بأنه (خنفس)، وهي كلمة تدل في الثقافة المصرية على المتشبِّه بالنساء، مقتصراً في تعريف الرجولة ومعناها على الشعر القصير.

 ويستخدم الكاتب هنا بُعداً رمزياً، إذ يستدعي الشاب شاهدين من التاريخ شعرهما طويل، أراد الحكيم من خلالهما أن يحفز مهارة المقارنة والمحاكمة لدينا، الشاهد الأول المفكر الإسلامي: جمال الدين الأفغاني، والثاني الثائر الشيوعي: جيفارا، ولكن الحلاق لا يفرق بين الرجلين، بل يرى أنهما سواء، كلاهما عديم الرجولة ساقط الأخلاق لأن شعره طويل، فيأخذ بملاحقتهما يريد قص شعرهما، ويستمر الشاب بتحدي الحلاق ويهدده بأنه لن يتنازل عن حريته في إطالة شعره، وسيدافع عن حقه بمقص الحلاق نفسه مهدداً بالانتحار، وهكذا يغضب المحقق ويأمر بطردهما من القسم.

المحور الاجتماعي

في المشهد الثالث يتناول الحكيم المحور الاجتماعي فيتوقف عند البيروقراطية التي نعاني منها في مؤسساتنا على اختلاف أنواعها.

وتلتقي هذه المشكلة مع مشكلة المحور الثاني من حيث الأخذ بظاهر النص وترك مقاصده وروحه، ولكنها تركز على الأثر الاجتماعي للبيروقراطية من تعقيد وتخبط يصل أحياناً إلى تهديد حياة الناس، إذ يحضر للقسم مصاب بحادث سير هرب من المستشفى ويتبعه الموظف المسؤول يريد أن يرجعه إليه، متهماً إياه بمخالفة اللوائح والقوانين.

يوضح المصاب للمحقق أنه وصل إلى المستشفى عند الفجر بحالة صعبة وهو ينزف بعد أن صدمه (أوتوبيس)، فوُضع في قسم الانتظار، ولم يُعالج لأن المستشفى غير مختص بهذه الحالات، يريد المصاب المغادرة إلى مستشفى آخر مختص، ولكن الموظف يمنعه، فالمغادرة تحتاج إلى موافقة المدير، والمدير غير موجود ولن يصل قبل الظهر، وعليه الانتظار.

يتشاجر الموظف والمصاب، ويتهجم الثاني على الموظف الذي يبدو متشبثاً بحرفية اللوائح دون أي تفكير بمدى صلاحيتها، وهنا يسخر المحقق من الحالة، ويبين للمصاب أن الحل الوحيد هو أن يموت قائلاً: "تموت وتعيش اللوائح"، الأمر الذي يرفضه الموظف أيضاً، مبيناً أن موت المصاب خارج المستشفى ممنوع ومخالف للوائح، وعليه أن يرجع معه وينتظر حتى يأتي المدير، وعندها يمكنه أن يخرج إلى مستشفى آخر بتحويل رسمي، أو إلى المقبرة بشهادة وفاة.

وهكذا يبدع الحكيم من خلال حواره الساخر الثلاثي "ثلاث كلمات" في تصوير ما تحمله البيروقراطية من اللامنطقية واللاجدوى على نحو تتكامل فيه العبارات تارة، وتتعارض تارة أخرى راسماً الابتسامة على وجه القارئ بأسلوب ذكي ومقنع.

ومع قدرة توفيق الحكيم اللغوية التي تجلت في كل موروثه الأدبي إلا أنه اختار لهذه المسرحية اللهجة العامية في إشارة لكونها وقفة واقعية تلتصق بحياة القارئ، وترافقه في رحلته مع نفسه وعقله ومجتمعه ليرى صورته ويسمع صوته فيما يقرأ حتى يجد نفسه مع نهاية المسرحية رافعاً قبعته لتوفيق الحكيم إعجاباً بإبداعه وتقديراً لرموزه ودلالاته.

اقرأ أيضاً: الألمُ... عندما يبكي من شدّةِ الشعر

 

كلمات مفتاحية