icon
التغطية الحية

الألمُ... عندما يبكي من شدّةِ الشعر

2020.12.07 | 04:44 دمشق

unnamed.jpg
تلفزيون سوريا - عبير نصر
+A
حجم الخط
-A

عزيزة هارون المولودة سنة 1923 في حيّ القلعة باللاذقية، لم تكنْ شاعرةً عاديةً، وكيف تكون؟، وهي ابنة الألمِ الذي يومئ أكثر مما يفيض، ويكثّفُ أكثر مما يسرد، ويبوحُ أكثر مما يخبر، مع هذا رأتِ العالمَ بعينٍ عاشقةٍ لا يُرى السحر إلاّ بهما، وكانت حياتُها الشخصية المظلمة عجينةً من الكلام الطيّع، أظهرته في خلقةٍ جميلةٍ، ورغم تلقيها الدراسة في منزل والدها، إلاّ أنها، ولمّا تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها، هامتْ شغفاً بالأدب، وحاولتْ نظمَ الشعرِ قبلَ أن تتعلَّمَ قواعده وبحوره، فبدأتْ بنشرِ القصائد المُعارضة باللغةِ المحكية في فترةِ الانتدابِ الفرنسي، ليحفظها الناس ويردّدوها في المظاهراتِ ضدّ حكم فرنسا، أما أقدم كتاباتها بالفصحى فتعودُ إلى عام 1946، والتي حملتْ عنوانَ (خمرةُ الفن) المنشورة في مجلةِ (القيثارة) في اللاذقية، تحت اسمٍ مستعار لرجلٍ لا امرأة:

ابذلي العطفَ والحنان لغيري أنا نبع الحنان يا مقلتيّا

إنّ حزني لا كالهموم وجوماً هو يبدو مقدساً عبقريّا

إن بكتْ مقلتي وعصَّ فؤادي بعث للحن ساحراً علويّا

وكانت بواكيرُ شعرها رؤيةً مسبقةً للخيبات التي تنتظرها، والذي مالَ إلى القصائد التقليدية الموزونة، إلا أنّ ذلك لم يمنع كتاباتها من أن تحملَ روحَ الحداثة شكلاً ومضموناً، في الوقت الذي لم يلتزم فيه ألمُها بأيّ خطوط حمراء أو قواعد مسبقة، فالبوح المشاكس عندها شرطٌ فني وأخلاقي يقومُ على نبذِ القوالب الجامدة، لذا غدتْ قصائدها قراءةً استنطاقية مفتوحة لبواطنِ النفسِ البشرية، تقومُ على فكّ أسرار الشيفرةِ التأويلية لروحِ الحزن، بالاحتكامِ إلى سلطةِ الصدقِ وقداسته، فكانتْ إحدى علاماتِ التأسيسِ للحداثة العربية مع جيل الرواد الأوائل، أمثال: (فدوى طوقان)، و(نازك الملائكة)، إلاّ أنّ شعرَها كان أكثرَ رقّة وعفوية، وعندما كتبتْ للأرضِ والوطنِ والحبّ والإنسان، كانتْ تمسحُ الغبارَ الزائد عن زجاجِ الإنشاء، لتظهرَ اللغةُ في أعظم جلالتها وكياستها، بعيدة عن التوهّم المستفِزّ والاسترسال المُملّ، ويُرجّحُ بعضُ الدارسين أنّ البساطةَ التي اتسمتْ بها قصائدها، مردّها إلى بُعدِها عن الدراساتِ الأكاديمية، أما هي فتبرِّرُ ذلكَ بقلةِ حظِّها من التعليم، هي التي تلقّتِ العلومَ العربية على يدِ الأستاذ الشيخ سعيد المطره جي، عندما لم تستطعْ إكمالَ دراستها بسببِ زواجها المبكّر وغير المتكافئ في السنّ من ابن عمتها، مع هذا غدتْ صوتاً متمرداً دافعَ عن حقوقِ المرأةِ وإنسانيتها، بعد أن وقعتْ في براثنِ العاداتِ والتقاليدِ الشرقية، وما إنْ عصبوا عينيها حتّى جاء شعرُها من تلقاء نفسه، يُلقي العجائب في طبيعةِ المعنى، فيرفعُ ما قبُحَ درجةً سماوية، فإذا هي تبصرُ، متجاوزةً العلم الناقص، والطبع الضعيف، والذوق الفاسد، هي لم تُسِئ التصرّف بمذاهب الألمِ إلاّ لتصبحَ البشاعةُ أخفّ حملاً، ولم تنفخ في فمِ القصيدةِ، لا لتملأ فراغاً على الورق، إنما لتنعشَ جمالاً مهزوماً في لوحةِ الحياةِ الناقصة:

عصبوا عينيّ لم ألمح من الدنيا سوى دار صغيرة

فتوغلت بإحســاسي، بقلبــي بالبصيرة

فعرفت الكون آلاماً، وأطماعاً حقيرة

ولمحت الكون جناتٍ نضيرة

وتابعتْ شاعرتنا نشرَ قصائدها الوجدانية بنفسِ الاسم المستعار، وهذه المرّة في صحفِ العاصمة، لتنالَ من قلبِ الشاعر الحمصي (نذير الحسامي)، الذي قدِمَ من دمشقَ إلى المدينةِ الساحلية الهادئة، باحثاً عن هذا (الشاعر)، واعترفَ في إحدى اللقاءات أنّه شعرَ وراء هذه الروح (أنثى)، لذا لم يغادر اللاذقية إلاّ ومعه (هارون) زوجةً له، لكنّ الألمَ كان على موعدٍ جديدٍ معها بعد طلاقها الثاني، لتتزوجَ للمرّة الثالثة من السياسي (قدري المفتي)، وتنفصلَ عنه بعد فترةٍ أيضاً، وليس عدم الاستمرارِ في زيجاتها أكثر ما آلمها، إنما عدم قدرتها على أنْ تكونَ أماً، لذا عانتْ آلاماً نفسيةً قاسية تجلّتْ في قصائدها الكثيرة والشهيرة، مع هذا لم تُصدر أيّ ديوان في حياتها، ولعلّ هذا ما أثّر سلباً على حضورها في الذاكرةِ الشعرية السورية، رغم أنّها من رائداتِ الشعرِ السوري وأكثرهنّ صدقاً وحساسية، فالانكسارات المتلاحقة عجنتْها وأغنتْها، لتتفتّحَ عيناها على الحزنِ قبل أن تتفتّحَ على الحياة، فكان شعرُها مرآةً لكل عذاباتها، ربما لأنها أدركتْ مبكراً أنّ الشاعرَ الفريد هو قنّاصُ الألمِ الهارب من براثنِ الوحدةِ والاستسلام، الألم العصيّ على الإمساكِ، المتمرّد داخل أسوارِ المصطلحاتِ البائدةِ واللغةِ الجامدة، ليوثّقَ لقطةً ضائعةً وجميلة، جمّدها الزمنُ وأودعها في خزائنه السرية:

بنفسي … بكل شعور وشِعري

بكل زهوري وعطري… إليك إلى مقلتيك

نسائم حبي، وخفقةُ قلبي، ترف عليك

وبهجة عمري لديك

سأبدع لحناً يذوب إليك

وبعد إخفاقاتها المتكررةِ في الزواجِ والإنجاب، قصدتْ (هارون) دمشقَ باحثة عن أيّ عملٍ يسدّ عوزها، فدعمها وزيرُ الإعلام آنذاك، وأسندَ إليها وظيفةَ أمينة مكتبةٍ في (هيئة الإذاعة والتلفزيون)، والتي أتاحتْ لها أنْ تقرأ كثيراً، وتتفرغَ لنظمِ الشعرِ وإلقائه من أمام (ميكروفون) الإذاعة في برنامج (شاعرٌ ينشدُ)، فطارتْ شهرتُها، وأقبلتْ عليها النوادي الأدبية، تستضيفها في أمسياتٍ شعريةٍ، وفتحتْ لها الأبوابَ لتُلقي قصائدها الوطنية والإنسانية والعاطفية، كما نشطتْ في إنشاءِ روابط وجمعيات تهتمُّ بشؤونِ المرأةِ والثقافة، فكانتْ وجهاً بارزاً في الندوةِ الثقافيةِ النسائية، وخاصة في (منتدى سكينة) الذي افتتحته (ثريا حافظ)، في منزلها بحيّ المزرعة الدمشقي، والذي ركّز على قضايا وطنيةٍ جوهريةٍ وشارك به كبارُ الشخصيات منهم: (إبراهيم كيلاني)، (عبد السلام العجيلي)، (فخري البارودي)، (مصطفى الشهابي)، (عبد الكريم اليافي) و(ألفة الأدلبي)، ولجمالِ ما تكتب أثنى عليها عميدُ الأدب العربي لمّا سمعَ شعرها في مؤتمرِ الأدباء العرب الذي عُقد في بلودان عام 1956 ، وكانَ على وشكِ الجزم بتأثّرها بالشعراء الفرنسيين، لولا أنها لا تجيدُ الفرنسية، فموهبتها دون شكّ أصيلة تزيحُ عنها شبهات التقليد، تبسّطُ معنى الكلام دون علّةٍ، فتصبحُ كالسائحِ في مدنِ الأبجدية تكشف فيها ما خَفي، وتُظهر منها ما حَسُن:

(في الصمت أعرفُ البعدَ الذي جرحني/ وأعرفُ القيدَ الذي طوقني/ وأعرفُ البراءةَ العتيقة/ في الصمت يخضلّ المدى في عالمي/ وألمسُ الغلالة الرقيقة).

هذه الجميلةُ ذات العيون الخضر التي يتكشّفُ فيها عشبُ المرارة بسهولةٍ، لم يكن شعرُها عمليةَ تذوّقٍ عابرٍ لحزنها البديع، إنما معرفة عميقة بطبيعةِ الحرمانِ وسياقه اليومي في يومياتها الكئيبة، لا لتبشّر بتحقيقِ لذّةٍ جماليةٍ بقدرِ الوصولِ إلى حكمةِ الوجع، ومعنى أنْ تكونَ  بارداً ووحيداً حتى في الزُحام، هي المنسيّةُ التي قادتْ أحزانَها كقطيعٍ بريّ وديعٍ في فضاءاتِ الأزمنةِ المُشتهاة، حتى رحلتْ بهدوءٍ في الثاني عشر من شباط عام 1986، بعدما عانتِ المرضَ طويلاً، لذا انتمى شعرُها إلى الإنسانِ وآلامه وآماله، واستطاعتْ بفضله أن تحتلَّ موقعاً ثابتاً بين شعراء عصرها، لأصالةِ قصائدها البعيدة عن الشرحِ النافر، والمجازِ المضطرب، والاستعاراتِ الممسوخة، فالشاعر الفريد من يتصرّف بالعالمِ على هواه، بينما الألم تلسكوبه المنفتح على روح الكونِ، وهنا يكمنُ الشعرُ المُحكم السبكِ، المتأنّق، المتوهج دون تكلّف، الخارج من السطوةِ البلاغيةِ إلى بساطةِ البيانِ الرقيق، شعرٌ يأخذ بتلابيبِ الإسفافِ والمجانية، كشرطيّ لا يغمضُ له جفن، وهنا تكمن عظمةُ شعر (عزيزة هارون)، وسرّ حضورها الواثقِ بين روّاد الحداثةِ الشعريةِ العربيةِ المعاصرة.