لبنان والوفد القضائي الأوروبي.. العصا والجزرة والعقوبات

2023.01.10 | 06:13 دمشق

لبنان يقترب من حافة الحرب الأهلية
+A
حجم الخط
-A

لم يسجّل منذ بداية العام الحالي أي تطور ملموس على جبهة الاستحقاق الرئاسي في لبنان، حيث تستمر المشاحنات السياسية بتغطية الفراغ في سدة الرئاسة، وكذلك تغطية عجز السلطة السياسية في ما تبقى من بلاد، عن اجتراح حلول واتخاذ تدابير زاجرة تخفّف من وطأة الانهيار وتداعياته اليومية على حياة اللبنانيين، الذين يستنزفون يومياً في مدخراتهم وعيشهم.

لذا حاول وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكرنو إعلان حالة الخطر خلال زيارته للبنان، والرجل الذي التقى كل المسؤولين في البلاد حاول أن يشير بسياق مطالعته، إلى أن الأزمات والتحولات التي يشهدها العالم أكبر من لبنان وأزماته، داعياً إلى ترك فرصة ما أنتجته قضية ترسيم الحدود للمساعدة في حل الأزمة التي تكاد تخنق لبنان وتهدد وجوده.

فالعالم الذي ما يزال يعيش تداعيات الحرب في أوكرانيا والتي تزداد تعقيداً في ظلّ التصعيد الحاصل لإجهاض أي مبادرة تهدف لوقف إطلاق النار وإصرار فلاديمير بوتين على تحقيق أي إنجاز ميداني، إلا أن التطورات في الشرق الأوسط تؤشر إلى مزيد من التعقيدات خصوصاً مع تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وهي أعلنت طريقة مقاربتها للعلاقة مع الفلسطينيين والعالم عبر الزيارة الاستفزازية التي أجراها وزير الأمن القومي "غفير" إلى باحات المسجد الأقصى، وبالتالي فإنّ المشهد الإسرائيلي يؤشر إلى منحى تصعيدي، ودفع الأمور إلى تصعيد مستمر في الضفة وغزة.

بالتوازي فإنّ حالة الاستنزاف السياسي عادت لتطفو على سطح المشهد العراقي، إضافة إلى المستجدات على المشهد السوري في ظل التشدد الأميركي تجاه النظام وحالة الانهيار المالي التي تعيشها سوريا. كل هذه المعطيات من المفترض أن تبعث برسائل إلى المسؤولين اللبنانيين بصعوبة المرحلة الإقليمية وأن المرحلة ليست متاحة للتعنت والانزلاق في سياسة رفع السقوف وإجهاض الفرص، خصوصاً أنّ المرحلة المقبلة في 2023 ليست كسابقاتها، وستكون ضاغطة على المسؤولين المعرقلين، وستتضمّن عقوبات أميركية وأوروبيّة حاسمة.

في ظل الاستعصاء السياسي والرئاسي الحالك، وبدء التنصل الدولي والإقليمي لإيجاد تسوية سياسية سريعة، برز اهتمام مجموعة دول أوروبية للتحقيق في ملفات قضائية ومالية ومصرفية، وعلى أبواب وصول هذا الوفد في هذه المرحلة والظروف السياسية المحلية والإقليمية برزت مجموعة أسئلة حول طبيعة التحقيقات والخلفيات والأسماء المستهدفة، بالإضافة إلى ما يمكن أن تصل إليه هذه التحقيقات، وهل هذا التحرك الخارجي يهدف إلى تحقيق مصلحة لبنانية أم محاولة للضغط على الأطراف الداخلية للقبول بصيغة حل سياسي في البلاد؟

هناك تصوّر لدى كل الدول الأوروبية أن لبنان بات يشكل مساحة لكل عمليات الكسب غير المشروع لحلفاء إيران والنظام السوري وغيرهم من العصابات الناشطة في عمليات تبييض الأموال..

وثمة أطراف لبنانية تعتقد أن هذه التحقيقات لن تصل إلى أي نتيجة تصب في صالح اللبنانيين الذين فقدوا مدخراتهم في المصارف، وهذه الإجراءات بحسب الكثيرين لن يتضرر منها المسؤولون السياسيون لأنهم سيكونون قادرين على العرقلة، فيما الهدف الأساسي هو رصد العمليات المالية الحاصلة ومنع تأثيراتها السلبية على تلك الدول.

بالتوازي هناك تصوّر لدى كل الدول الأوروبية أن لبنان بات يشكل مساحة لكل عمليات الكسب غير المشروع لحلفاء إيران والنظام السوري وغيرهم من العصابات الناشطة في عمليات تبييض الأموال، وهذه اللجان الأوروبية قد تكون مهامها الأساسية التدقيق بما يجري، وقد تلجأ لتحذير المصارف من ممارسات تسهل عمليات التبييض المالي.

في المقابل فإن عمليات الفساد المنظم الداخلي للمجموعة السياسية الحاكمة لا تبدو أنها تعني الدول الخارجية، ولكن أن يلجأ القضاء الأوروبي وفي أكثر من دولة إلى التحرك باتجاه لبنان، فمرده إلى وجود تأثيرات سلبية على النظام المالي في هذه الدول. أو أن لبنان هو ساحة انطلاق لعمليات مالية ونقدية تهدد صورة تلك الدول ونظمها المالية، لذا فإنه ليس من المنطقي أن يكون الهدف هو الولوج في حساسيات لبنانية ضيقة وحسابات متناقضة غايتها محاسبة المسؤولين اللبنانيين أو المصارف المتهمة بأكل أموال المودعين.

لكن ومع تلك المسارات المتشابكة في التدقيق الجاري حول فساد المجموعة الحاكمة في لبنان، يعاد طرح ملف التنقيب والاستكشاف عن الغاز في لبنان، باعتبار أنه في حال سَلك ملف استكشاف الغاز والتنقيب ثم الاستخراج طريقه إلى التنفيذ، يصبح لبنان بلداً "غازياً"، وسيكون ذلك إشارة قوية إلى أنّ القيود المفروضة عليه قد زالت أو بدأت بالانحسار، وهناك نقاش مستفيض داخل الإدارة الأميركية حول إمكانية خلق برامج مساعدة للبنان لمنع سقوطه في ظل الاتصالات التي يجريها الفاتيكان مع واشنطن وباريس لإنقاذ آخر حصون الحضور المسيحي في المشرق.

ما يعني أن القوى الإقليمية والدولية المتصارعة في لبنان والشرق الأوسط قد تتَوافق على الحدّ الأدنى، حول نقطة معينة لتمرير الاستحقاق الرئاسي والنفطي، وأن المسؤولين قد يحصلون على غطاء إقليمي - دولي بحده الأدنى، تسمح بإبرام تسويات جديدة في الداخل، على غرار التسويات الجارية في دول محيطة.

وعليه هناك ترقب للموعد الذي ستطلق فيه شركة "توتال" الفرنسية عملها بحرياً، ونشاط الشركة نفسها سيكون العلامة الفارقة في الإعلان عن عودة البلاد إلى سكة التعافي الاقتصادي وربما السياسي إذا ما ترافقت مع خطوات أميركية وربما عربية.

ثمة اعتقاد أن المسألة هي مسألة سياسية في العمق. فلبنان لن يُمنَح القدرة على استخراج الغاز واستثماره إلا عندما تكون قد نضجت اللحظة لخروجه من الأزمة والدخول في التسويات الكبرى وتحديداً بين إيران والولايات المتحدة..

و"توتال" نفسها أوكل إليها دور حيوي لتسهيل الاتفاق على ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل. وأطلق وفدُها الزائر آنذاك وعوداً أمام المسؤولين اللبنانيين بالمباشرة في التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية فور وضع اللمسات النهائية على الاتفاق الذي رعته واشنطن وسهلته باريس والدوحة.

وثمة اعتقاد أنّ المسألة هي مسألة سياسية في العمق. فلبنان لن يُمنَح القدرة على استخراج الغاز واستثماره إلا عندما تكون قد نضجت اللحظة لخروجه من الأزمة والدخول في التسويات الكبرى وتحديداً بين إيران والولايات المتحدة، أي ضمن سلَّة شروط متكاملة ستفرضها القوى الفاعلة الدولية والإقليمية التي تتصارع أو تتوافق.

باختصار، صحيح أنّ الصورة في لبنان ما تزال قاتمة وغير واضحة، إلا أن الإشارات الممكن البناء عليها، تنتظر مواكبة إقليمية لم تنضج بعد، وحركة داخلية على مستوى المسؤولية التي تتطلبها خطورة الأزمة التي تنهك لبنان.