icon
التغطية الحية

لبنان.. في الوقت الذي يعزي فيه الناس بالغرقى آخرون يخاطرون في البحر من جديد

2022.05.10 | 14:29 دمشق

اللاجئ السوري أحمد سبسبي يبكي خسارة أسرته في حادثة غرق المركب بطرابلس اللبنانية
اللاجئ السوري أحمد سبسبي يبكي بسبب خسارة أسرته في حادثة غرق المركب في طرابلس اللبنانية
ميدل إيست آي - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

بعد مرور أسبوع على غرق أحد القوارب، توجه ربيح جمال بقارب مستأجر نحو المياه الإقليمية لطرابلس فأبطأت سرعته الشرائط المتداخلة المنتشرة على الشواطئ الشمالية للبلاد عند جزر النخيل، وهنا شرع يبحث عن أي أثر يوصله لأمه وشقيقته وزوجته وابنته وابنه، لكن دون جدوى.

فقد فقد هذا الرجل خمسة أفراد من عائلته في البحر في 23 من نيسان وذلك عندما انقلب قارب للتهريب محمل بحمولة زائدة بهم وذلك على مسافة تبعد 5.5 كلم عن سواحل لبنان، وذلك بالإضافة إلى أصدقاء وأقارب بعيدين له أصبحوا هم أيضاً في عداد المفقودين.

في ذلك اليوم المشؤوم، وضع جمال ابنته ريماس، 6 سنوات، وابنه يوسف، 4 سنوات، على متن ذلك القارب، عندما كانت أشعة الشمس تختفي وراء الأفق وتنتشر فوق سطح البحر الذي سيبتلع الطفلين بعد فترة وجيزة.

وبما أن جمالاً عسكري في الجيش اللبناني، لذا كان يعرف أنه لن يستطيع الالتحاق بأسرته، ولهذا ودعهم رغماً عنه وتمنى لهم عبوراً آمناً.

كانت تلك المجموعة التي حلمت بأن يتحول أفرادها إلى طالبي لجوء تحاول الهروب من المشكلات التي لم ترحم أحداً في لبنان، ولهذا قصدت أوروبا، حيث كانت نقطة الانطلاق من مدينة القلمون الساحلية الفقيرة، التي تقع جنوبي طرابلس. أما وجهتهم فقد كانت إيطاليا، أي على بعد يفوق ثلاثة آلاف كيلومتر.

إلا أنهم لم يتمكنوا من بلوغ تلك الوجهة، للأسف.

وضع عبثي

بحسب ما أوردته المفوضية العليا للاجئين، فإن القارب كان يحمل نحو 84 مسافراً من أصول لبنانية وسورية وفلسطينية.

في حين أعلنت القوات المسلحة اللبنانية إنقاذ 48 شخصاً والعثور على ستة جثث منذ وقوع الحادثة، أي أن 30 شخصاً ظلوا في عداد المفقودين.

كما أن ظروف الغرق لم تتضح بشكل كامل بعد، إذ اتهم بعض الناجين الذين ظهروا في المحطات التلفزيونية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي الجيش بشتم وإهانة المسافرين أثناء وجودهم على متن القارب، وذلك قبل أن يرتطم بالقرب عمداً، وهذا ما أدى إلى تصدع القارب.

في حين أكد مسؤولون على محاولة المهربين القيام بمناورات متهورة للهروب.

وقد أثارت هذا الواقعة الكارثية غضب الشارع قبل أسابيع على بدء الانتخابات النيابية المقررة في 15 من أيار الجاري.

The capsizing of the boat off the coast of Tripoli ignited widespread public anger just weeks before 15 May parliamentary elections (MEE/Sally Abou AlJoud)

غرق المركب أثار غضب الشارع

وفي جلسة طارئة أعلنت الحكومة اللبنانية أنها: "كلفت قيادة الجيش بإجراء تحقيق شفاف حول ملابسات الحادثة بإشراف السلطة القضائية المختصة" وذلك بحسب ما ورد على لسان وزير الإعلام زياد المكاري.

ولكن بناء على الاتهامات التي تحمل البحرية اللبنانية جزءاً من المسؤولية بالنسبة لغرق ذلك القارب، تحدث البعض عن عبثية فتح الجيش لتحقيق عن نفسه.

وبالرغم من وقوع تلك المأساة، مايزال العشرات من الأشخاص يحاولون عبور البحر بطريقة غير شرعية بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية الحادة التي زادت من حالة اليأس بين الناس.

ففي 29 من نيسان الماضي، منعت دورية تابعة لمديرية الاستخبارات اللبنانية قارباً يحمل نحو 85 شخصاً من مغادرة سواحل طرابلس، واعتقلت تلك الدورية خمسة أشخاص اشتبهت بأنهم يعملون بتهريب البشر، وذكرت بأن المهربين تقاضوا 450 ألف دولار من هؤلاء الطامحين بأن يصبحوا مهاجرين وذلك حتى يقوموا بشراء المركب المعد للرحلة وتجهيزه.

وفي اليوم ذاته، أعلنت قوات الأمن الداخلي عن اعتقالها لرجلين، أحدهما لبناني والآخر سوري، حيث اعترف كلاهما بمحاولة تهريب 23 سورياً على متن قارب متجه إلى قبرص، وقد دفع كل شخص للمهربين ثلاثة آلاف دولار.

وفي تلك الأثناء، شكل أهالي الضحايا في حادثة الغرق بطرابلس لجنة للتواصل مع قيادة الجيش ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي.

وتخطط هذه اللجنة أيضاً للاحتجاج ضد ما وصفته بتقاعس من قبل الحكومة وذلك عبر تعطيل إجراءات الانتخابات النيابية في 15 من أيار في مدينة طرابلس، إلى جانب إغلاق مراكز الاقتراع في منطقة الضنية الواقعة شرقي طرابلس.

آخر مكالمة هاتفية

يحدثنا جمال بصعوبة عما حدث فيقول: "لم أقلق عليهم، بل كنت مطمئناً عندما أقلع القارب بهم، فقد أرسلتهم على متنه لأن ضرورات الحياة لم تعد متوفرة في هذا البلد... إذ إننا لا نمتلك حتى بيتاً هنا، لذا تمنيت أن يحصل أولادي على تعليم جيد، لأنه لم يعد بوسعي دفع أقساط المدارس هنا، خاصة بعدما زادت أقساط مدارسهم مع استمرار صعود الدولار".

خسرت الليرة اللبنانية التي تعاني من التضخم أكثر من 90% من قيمتها منذ بدء الانهيار الاقتصادي والمالي غير المسبوق في البلاد قبل ثلاث سنوات، ولهذا يعتبر هذا الانهيار من أسوأ الأزمات الاقتصادية على مستوى العالم بحسب البنك الدولي.

ألقت الأزمة المالية التي ترافقت مع مشكلات سياسية واجتماعية-اقتصادية امتدت لسنوات طويلة في لبنان، نحو 80% من السكان بين براثن الفقر ودفعت الآلاف منهم إلى الرحيل، إلا أن خيار الرحيل عبر الطرق القانونية رفاهية وامتياز لا يحظى الجميع به.

أجرى جمال محادثة هاتفية مع زوجته عندما أبحر القارب بكل سلاسة في عرض البحر، مبتعداً عن شواطئ لبنان، وقد طمأنته في تلك المكالمة بأنها هي وبقية أفراد الأسرة بأمان، إذ كان جمال يريد أن يطمئن على والده، يوسف، 55 عاماً، بما أنه يعاني من مرض القلب، وبأنه مايزال بخير بعد صعوده على متن المركب.

يحدثنا جمال عن ذلك فيقول: "إنه يتناول 10 أدوية ولم يعد بوسعي تأمينها له، وعندما سألت عنه عندما كان على متن المركب، أخبروني بأنه أشعل لفافة تبغ وبدأ يستمتع بالرحلة".

نجا يوسف من الغرق، هو وأحد أبنائه، لكنه خسر نساء الأسرة وأطفالها في تلك الليلة، حيث غرقت أم جمال، هند، وشقيقته، ليليان، وزوجته حنان ميريب، وكذلك والداه ريماس ويوسف، وكان ضمن تلك الرحلة أيضاً شقيقة زوجة جمال الحامل، إلا أن أثرها فقد في البحر هي أيضاً.

"صاروا عند الله الآن"

ثمة بعض من العزاء والسلون يشعر به أحمد سبسبي من حلب السورية من خلال إيمانه بعدما فقد زوجته وأولاده الثلاثة في الحادثة نفسها، خاصة بعدما نجا هو، وهذا ما يدفعه للقول وهو دامع العينين وقد حفر الحزن أخاديد في وجهه: "صاروا عند الله الآن، وسيعوضهم عن  كل شيء كنت أريد أن أقدمه لهم بمجرد وصولنا إلى أوروبا... لقد سافرت من أجل أولادي حتى يعيشوا حياة كريمة وحتى أستطيع أن أؤمن لهم كل ما يطلبونه، كما كنت أريد أن أضمن تعليماً جيداً لهم وأن أؤمن مستقبلهم".

تم تجميع ماسة، 8 سنوات، وحمودي، 6 سنوات، وجاد، 4 سنوات، مع أمهم، ريهام دواليبي، داخل قمرة القارب، حيث حصلت معظم النسوة والأطفال على مقعد بحسب ما ذكر أحمد، لأن ذلك سيوفر لهم أماناً أكثر من البقاء على سطح القارب، ويعلق أحمد على ذلك بقوله: "اعتقدنا أن الرجال أكثر جرأة ولهذا بوسعهم الوقوف في الخارج".

إلا أن هذا الرأي لم يكن سديداً للأسف، إذ قبل أن ينقلب القارب بقليل، بدأت المياه تتسرب إلى داخل القمرة التي احتشدت فيها النساء والأطفال، ومعظمهم لم يرتد سترة النجاة، وهنا يضيف أحمد: "مايزال من كانوا يجلسون في الداخل بين عداد المفقودين، ومعظمهم من النساء والأطفال، إذ كان برفقة كل امرأة عدد من الأطفال، فقد كان مع زوجتي ثلاثة أطفال، وثمة امرأة أخرى معها ولدان، وكان هنالك عدد قليل من الرضع في الداخل أيضاً".
وقعت تلك المأساة خلال شهر رمضان، أي أن معظم من كانوا على متن السفينة واصلوا الصيام، إلى أن أفطروا بعد انطلاق الرحلة عند غروب الشمس، حيث شربوا ماءاً وأكلوا تمراً ثم مناقيش بزعتر وبجبنة، كما حزموا ضمن أمتعتهم الكثير من أنواع الطعام والثياب، وكان أحمد سبسبي يتواصل مع شقيق زوجته وحماته ليطلعهم على آخر التطورات بالنسبة لتقدم المركب، وقد طلب منهم ألا يقلقوا في حال لم يتمكنوا من الاتصال به بعد فترة قصيرة، لأنه لن يستطيع استقبال مكالماتهم بعد خروجهم من المياه الإقليمية اللبنانية.

"لن تجف دموعي"

يخبرنا أحمد بأن أفكاراً انتحارية بدأت تراوده بسبب فقدان أحبته بشكل لم يتخيله أحد، فقد فر إلى لبنان عندما اندلعت الحرب في سوريا، ولم يتمكن من العودة إلى بلده بعد ذلك الحين، وعن ذلك يقول: "ولد كل أطفالي في لبنان، إذ إنني لا أستطيع أن أعود إلى سوريا لأني مطلوب هناك، حيث يمكن أن أتعرض للقتل فور قدومي، ولهذا فإن وجودي في سوريا يعتبر خطر اً كبيراً بالنسبة لي".

أما عن تلك اللحظات المفجعة فيقول: "كنت آخر من غادر القارب قبل غرقه.. إذ لم تستغرق عملية الغرق أكثر من ثلاث أو أربع ثوان، لدرجة أن العين لا يمكنها أن تدرك أو تتابع كيف حصل هذا، كان الجميع مايزال داخل القارب، أي أن جميعهم فارقوا الحياة، ولذلك لن تجف دموعي، لأنني أرى أسرتي معي في كل مكان أذهب إليه، كما أراهم وأنا أحدق بالسماء، أو بالأرض، لقد صاروا عند الله، ولقد كنت طيباً مع أسرتي وقدمت لهم الدفء والحنان، إلا أن الله سيكون أشد عطفاً عليهم مني وسيعوضهم بالأشياء التي لم أستطع تقديمها لهم".

بقي أحمد سبسبي برفقة أهل زوجته يستقبل المعزين بوفاة أحبائه، إلا أن أياً منهم لم يقدم له أي معلومة جديدة حول زوجته وأطفاله.

وعلى الرغم من وقوع تلك المأساة، مايزال جمال يخطط للهروب من لبنان، بصرف النظر عن وسيلة النقل التي ستخرجه من ذلك البلد، كما يتمنى أن يعثر على جثث أفراد عائلته حتى يستطيع دفنها قبل أن يرحل، ويعلق على كل ذلك بقوله: "حتى أعيش حياة الفقر وأؤمن أساسيات الحياة فقط، أحتاج إلى راتب أعلى من راتبي بخمسة أضعاف، أي أننا لا نعيش حياة الفقر وحسب، بل أدنى من ذلك بكثير".

المصدر: ميدل إيست آي