لا غفران لكل هذا الموت.. الاختفاء القسري وازدهار أدب السجون

2023.07.08 | 06:13 دمشق

لا غفران لكل هذا الموت.. الاختفاء القسري وازدهار أدب السجون
+A
حجم الخط
-A

"ليس ثمة أمهات بما فيه الكفاية

لتعويض كل هذا البكاء

ولن تكون هنالك كلمات تطفئ

ذلك البرد الذي بدأه الرصاص

ولن يكون هنالك غفران

لا غفران

لكل ذلك الموت"

 

لاغفران لكل ذلك الموت، كما يقول الشاعر المكسيكي خافيير لوزانو، فما نعيشه هو رواية مفتوحة على كل الاحتمالات، والأهم أن يسقط احتمال اليأس، رغم قتامة المشهد.

ما معنى أن تكون بكامل أحلامك وحضورك، وتختفي فجأة؟

 ما معنى أن تخرج من بيتك ولا تعلم هل سترجع أم لا، ما معنى أن يتحوّل الهواء الذي نتنفسه إلى هواء خانق، والحياة برمتها تنسحب منها الحياة، ويصبح وطنٌ بكامله يرتجف تحت سطوة العنف والفوضى، والتعقيد، والتدويل، والتخدير، وأن يمسي ما يعيشه الناس فيلما طويلا اسمه الاختفاء القسري؟

ما معنى الاختفاء، هل هي العزلة الافتراضية، أم العزلة القسرية، أم المنفى، أم الغياب عن حضن الأم والعائلة، أم البطالة المفروضة، أم عبور الحدود بطرق غير شرعية فيخطفنا البحر وتأكلنا الحيتان، أم هذه المحرقة التي تفرض على السوريين، أن يكونوا خارج التغطية، حدود مغلقة بوجههم، بطالة يعيشونها، فإلى أي درجة يشكل هذا محو للذاكرة، وتهديم حقيقي لفكرة الإنسان؟

لا شك في أن الاختفاء مرسوم ومحكم بقوانين العنف، التي تؤكد على (أنا)، المستبد مقابل محو الآخر، الإنسان المثقف، المبدع، المفكر، والفيلسوف والفنان، وكل من يشكّل صوت ُحر يعرّي الأنظمة.

بعد 12 عاما من النزاع والعنف لم يحرز أي تقدم يذكر لتخفيف معاناة عائلات المفقودين، ورغم هذا جاء اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء "مؤسسة مستقلة" من أجل معرفة مصير آلاف المفقودين في سوريا

لو اقتربنا فقط من الاختفاء القسري، نرى بأن حياة وأحلام شباب وصبايا وأطفال تقتل، ونرى أمهات وزوجات وحبيبات ينتظرن من باتوا في حكم الغياب، هذا العالم الذي يختنق فيه الصوت، وطالما قلت الصوت إنسان، إنهم يخافون الصوت فيطلقون سهام الاختفاء القسري، فنختفي كأننا لم نكن..

بعد 12 عاما من النزاع والعنف لم يحرز أي تقدم يذكر لتخفيف معاناة عائلات المفقودين، ورغم هذا جاء اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء "مؤسسة مستقلة" من أجل معرفة مصير آلاف المفقودين في سوريا، جاء القرار خطوة لصالح إبقاء "قضية المفقودين" حاضرة. بمعنى تدويلها، رغم أن الحقوقيين لا يُعّولون كثيرا على مخرجات عمل المؤسسة.

12 عاماً ونيف، وما تزال تنهيدة الغياب ترسم انتظارا ولا أحد، متى كان الغياب غبارا، ورمادا، عشرات آلاف الوجوه الغائبة، أسر، أطفال، صبايا، شباب، مسنون أيضا، كابوس طويل من الاختفاء، لهذا كلّ من نجا فهو ناجٍ، أما الاختفاء القسري فهو في جوهره اقتناص حرية الحياة، بل والحياة نفسها.

لا أفق للحل، ولا حتى معرفة مصائر المغيبين قسرا، أما من دفع ليعرف مصائر من غاب من أفراد أسرته، فقد وصلته صورة جثة ابنه التي تحمل رقما، ليطوي صفحة على الأقل، وفي كل هذه المصائب يتحمل المجتمع الدولي ما وصلنا إليه، والذي يعكس الحضيض الأخلاقي وكذب كل شعارات حقوق الإنسان التي يرفعونها.

هذا الوطن الجحيم، الذي يضع الذات في مواجهة الخطر، والصراع، والمجازفة، ندرك معنى الغياب، ونراه في نفي الأسر، تفتيتها وضياعها، ضياع المجتمع والثقافات، تفسخ القيم، غياب المهن التي تشكل هوية وصورة المدن ببعدها الحضاري العميق، دمشق، حلب، ومدن أخرى، فالأنظمة الدكتاتورية وكما يقول الدكتور أحمد برقاوي تشكل خطرا على الحياة، إنها: "لوحة كبيرة مكتوب عليها احذر الاقتراب: خطر الموت. فهناك سلطة تهدد الناس بالموت عبر أدوات فقدت أيّ إحساس بقيمة حياة الآخر"..

لقد بتنا أرقاما لا معنى لها، أرقاما في المعتقلات، أرقاما في المنافي، أرقاما تائهة في الغبار، فالوطن بكامله أصبح سجنا، والخوف الأكبر أن يتحول إلى وطن الصمت، أو أن تعلو الصرخة بأنه عالم ليس لنا، حيث متتابعات الدم والمجزرة وتآمر القوى العالمية ما دفع كثيرين اليوم للقول: ماذا تبقّى لنا؟

لم يكترث العالم لآلاف الصور، صور قيصر، ولا إلى شعب يعيش أكبر مأساة في التاريخ المعاصر، وهي مأساة سوريا، فقط فرضوا حصارا اقتصاديا فزاد الطين بلّة، وأصبح الناس تحت خط الفقر من المعاناة والعذاب والفقر.

من هنا ليس غريبا أبدا أن يزدهر أدب السجون والمعتقلات، والذي يرينا بأن السجن مكان للموت والإعدام، مكان للاختفاء الكامل، فإلى الآن لا نعرف مصير عشرات الآلاف من المعتقلين المغيبين قسرا، لا نعرف أي فكرة عن مصائرهم، المعتقل حين يتحول إلى معسكرات موت نازية، ولا ننسى الصور التي خرجت من السجن عن تجويع وتعذيب وقتل.

ليس عبثا أن يزدهر أدب السجون في النصف الثاني من القرن 20 في العالم العربي، وهنا أستعيد أسماء روايات دلتنا على عالم العتمة، وأشارت إلى أنظمة أمنية مخيفة، ومنها "تلك العتمة الباهرة"، للطاهر بن جلون، الرواية التي انتهت بموت السجناء واحدًا تلو الآخر، فهل نموت حقا، نموت قهرا من تجاهل كل أنظمة العالم لأبسط حقوق الإنسان، وهي أن نعيش في وطن معافى وأن يحصل الإنسان على مقومات الحياة.

من هذه الأعمال أيضا، رواية صنع الله إبراهيم “تلك الرائحة”، كتابات عبد الرحمن منيف ”شرق المتوسط، ومدن الملح”، والعراقي فاضل العزاوي “القلعة الخامسة” وروايات كثيرة أخرى.

ثم جاءت التجربة السورية التي عبّرت عن أدب السجن، الروائي مصطفى تاج الدين موسى، والقاص جميل حتمل، وإبراهيم صموئيل، والشاعر فرج بيرقدار، والروائي مصطفى خليفة “رقصة القبور”، و"القوقعة"، وياسين الحاج صالح “يوميات الحصار في دوما"، وفواز حداد "السوريون الأعداء"، رواية "اختبار الحواس"، لعلي عبد الله سعيد، إلى جانب روايات أخرى حكت عن الوجع السوري، مثل "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" لخالد خليفة، وكتابات سمر يزبك وأسماء كثيرة أخرى.

وبحسب فوكو، فإن السجن يُشكّل جزءًا من بنية الرقابة على المجتمع، من أجل هذا فإن السجون -كمركز مراقبة وعقاب وانتقام- في العصور الوسطى وحتى القرن السابع عشر كانت تعذيبا علنيا حتى الموت مثل داعش اليوم، درس فوكو هندسة السجون، ومع دمقرطة الحياة السياسية والإجتماعية أصبح السجن مكانا للتأهيل..

يبدو أن خيال المستبدين أوسع من خيال الأدباء، إنهم يبتكرون التعذيب، فيزدادون عطشا إلى الدم، لا كامو في “كاليغولا” أو ماركيز في “خريف البطريرك” أو استورياس في "السيد الرئيس"، أو غيرهم استطاعوا التقاط متعة التوحش التي ترتسم على قناع الموت الذي يلبسه

ومن واقع الثورة السورية، ولاسيما في سنتها الأولى، حين كانت في صورتها المدنية، فإن هناك الكثير من الأمثلة التي تحوّلت إلى أيقونات، مقتل وتشويه الطفل حمزة الخطيب، غياث مطر ابن داريا، وليس آخرهم العالم باسل الصفدي عبقري الخوارزميات، والذي تحوّل إلى رقم من مئات الآلاف الذين قضوا، إلى جانب عشرات الآلاف من المغيبين الذين لا تعرف مصائرهم.

يبدو أن خيال المستبدين أوسع من خيال الأدباء، إنهم يبتكرون التعذيب، فيزدادون عطشا إلى الدم، لا كامو في “كاليغولا” أو ماركيز في “خريف البطريرك” أو استورياس في "السيد الرئيس"، أو غيرهم استطاعوا التقاط متعة التوحش التي ترتسم على قناع الموت الذي يلبسه.

الخوف هو الذهاب إلى الصمت، والناس محاصرون بسجون داعش، والنصرة، والنظام، وهنا أسأل كيف نحيك لغة جامعة، لغة للناس أولا، ليس من أجل التعايش، الشعوب اليوم تتقاسم الهم، وتعرف من يقف وراء عتمة أوطان بكاملها، كل الخوف أن يقود الألم إلى الصمت، ولغة الهمهمات، فما نعيشه اليوم يحيلنا إلى ناس لا مرئيين وأوطان ركام، إنه فيلم طويل اسمه الاختفاء القسري.