لا عودة إلى ما قبل خطوط ثورة آذار

2022.03.16 | 05:52 دمشق

thumbnail_26.jpg
+A
حجم الخط
-A

طوال عقود عاش الإنسان العربي والسوري ضمنا في جمهوريات وملكيات الرعب العربي ككائن بشري بلا نفس أو روح، وفيما تجاهل حكام وقادة وسياسيون ومثقفون عرب وغربيون، لعقود، وجود كرامة للشعوب العربية كما تجاهلوا وجود هذه الشعوب ذاتها، فإن دولا وأنظمة ودساتير بلدان عديدة ومنها دول عربية تعترف نظريا بكرامة الإنسان وينص بعض تلك الدساتير حرفيا على صيانة كرامة الإنسان، فيما تضع بعضها الكرامة مادة أولى في الدستور.

لنفي ما سبق من تاريخ الاستبداد وهدر الكرامات وازدواجية الدستور وتطبيقه، خرج الشعب السوري في ثورته لاستعادة كرامته وهويته الإنسانية قبل الوطنية فامتزج الشعور بالكرامة المستعادة للتو بشرط الحرية، فلا كرامة دون حرية تنتزع من النظام الحاكم انتزاعا، وقد انتزع السوريون الثائرون حريتهم بحق ومارسوها في كل مكان وزمان طوال هذا العقد المنصرم، في الساحات والتظاهرات والاعتصامات في الأرياف والمدن والقرى، في الهواء الطلق وتحت الأرض وفي ظروف الحصار، والتجويع، بل حتى في ظروف الاعتقال وأقبية السجون.. وصولا إلى بلاد اللجوء، حيث فضل السوريون الذين تنفسوا الحرية وخبروا الإحساس بالكرامة بعد عقود، فضّلوا الفرار بحريتهم على أن يبقوا ولو للحظة واحدة تحت سلطة القهر والصمت والجبن والنفاق..

التشبث في طلب الحرية والكرامة والحقوق هو طبع عام يتصف به كل شعب عانى الظلم والاضطهاد والإبادة والتهجير..

وبعد سنوات الثورة والحرب لم يكن بالإمكان إعادة الشعب الثائر إلى العبودية مهما أوغل النظام في القتل، ليس لأن الشعب السوري مقهور أو لأنه شعب عنيد بل لأن هذا قانون في النفس وفي المجتمع البشري، ولو فعل الشعب السوري وعاد إلى ما قبل خطوط ثورة آذار ٢٠١١ لكانت تلك العودة نقضاً لنواميس الطبيعة البشرية.

والتشبث في طلب الحرية والكرامة والحقوق هو طبع عام يتصف به كل شعب عانى الظلم والاضطهاد والإبادة والتهجير.. الإصرار على الكرامة والتشبث بالحرية رغم الظروف غير المواتية أو القاسية، ولأجل ذلك دفع السوريون مليون شهيد ومئات آلاف المعاقين والمشوهين ومثلهم مئات آلاف المصابين إصابات نفسية ومالا يقل عن مئة وخمسين ألف معتقل قتل مثلهم في السجون، وكذلك نزح نصف الشعب السوري داخل سوريا وهُجّر ربعه، ما يزيد عن تسعة ملايين إلى خارج البلاد..

وطوال عشر سنين عصيبة ستعصف بسوريا أحداث ومعارك وحروب تقع على أرضها وسيدفع السوريون ثمنها، وستتبدل معالم كثيرة، وسنشهد تغيرا في حدود ومناطق نفوذ سياسية واجتماعية وبشرية إضافة لتغيرات في موازين القوى السياسية والانتشار العسكري ما يؤدي إلى تغيرات في الجغرافية البشرية لسوريا وجوارها، وهو ثمن ضخم وهي خسائر هائلة دفعها السوريون لأنهم طالبوا باستعادة كرامتهم، وهم لم ولن يتنازلوا عن هذه الكرامة التي يحلمون بها منذ نصف قرن بعدما دفعوا ثمنها مضاعفا، فليس لدى السوريين ما يخسرونه بعد ذلك وليس أقل من أن يعيد السوريون كتابة دستورهم بأيديهم بعدما أعادوا كتابة حاضرهم ومستقبلهم بدمائهم وأرواحهم، وليس أقل من أن تكون المادة الأولى من دستور سوريا الجديدة تنص على صيانة كرامة الإنسان بغض النظر عن عرقه ولونه ودينه ومذهبه وطائفته ولغته واعتقاده السياسي.. والأهم من ذلك إنتاج نظام سياسي جديد يضمن كرامة الإنسان وحرياته.

وطوال سنوات ركّز خطاب الثورة السورية على مطلبي الكرامة والحرية فيما انحرف آخرون بعد سنتين من انطلاق الثورة باتجاه خطاب إسلاموي استبدلوا فيه الحرية بأهداف أخرى مثل إقامة نظام إسلامي.. أو إقليم عرقي على أسس إثنية وأيديولوجية وسوى ذلك، فيما كان النظام يركّز في خطابه الدعائي على السخرية من مطلب الثورة: الحرية، وهو بينما كان يستطيع السخرية من هذا المطلب لم يكن ليتجرأ على ذكر المطلب الآخر: الكرامة.

السوريون كأشقائهم المنتفضين أثبتوا للعالم أنهم أجدر شعوب الشرق استحقاقا للكرامة والحرية وسيحصلون عليهما عاجلا أم آجلا

لقد تناسى الإسلاميون والقومجيون والموالون للنظام، أن الدافع الحقيقي الأول للشعب السوري لإعلان ثورته كان إحساسه بالمهانة وفقدانه الكرامة حتى إن الشعب السوري المعروف بنخوته وكياسته وذوقه فقد ملامحه الإنسانية بعدما وصل العسكر إلى الحكم، حيث عمّم الفساد وقيمه السلبية كالاستقواء على الضعفاء ونهبهم وإهانتهم كما عمّم مثالب مرضية كالذل والخوف والجشع والقسوة والفئوية والعنصرية لتصبح كما لو أنها أعراف وعادات طبيعية!!

ختاما وبعد ما تقدم، فإنه لتصرف طبيعي أصيل وأصلي أن يستعيد شعب مستعبد طبيعتة البشرية وفطرته الإنسانية الكامنة فالشعوب كالأفراد تسعى دائما إلى الأرقى والأجمل، والسوريون كأشقائهم المنتفضين أثبتوا للعالم أنهم أجدر شعوب الشرق استحقاقا للكرامة والحرية وسيحصلون عليهما عاجلا أم آجلا.

هذا ما يقوله كل سوري مؤمن بالثورة في داخله. وهو ليس إصرارا على مطلب الكرامة لمجرد العناد، بل هو موقف دفع السوريون ثمنه باهظاً، ولم يبق سوى انتظار استحقاق المقابل.