لا أريد أصدقاء.. أريد أقرباء..!!

2022.06.14 | 07:02 دمشق

104592.jpg
+A
حجم الخط
-A

بهذه العبارة وبحروف متلعثمة نطق طفل صغير من عائلتي -ليلة أمس- وهو يبكي بكاءً مريراً، استمر حتى نام من البكاء، والقهر أيضاً.

ولد هذا الطفل، في الغوطة الشرقية أيّام الحصار، وفتح عيونه على الدنيا وهو في بيت صغير بإحدى ضواحي إسطنبول بعد التهجير.. وحين خطى أولى خطواته في روضة الأطفال، وجد لغة غريبة يتكلم بها كلّ الأطفال حوله.

أما أقرباؤه، أبناء عمه الذين هم بمثل عمره، فهم يقيمون في تركيا أيضاً، جاؤوها بعد تهجير الغوطة، ولكن لم يلتق بهم إلا مرتين خلال ثلاث سنوات، فلقاء الأقارب لا بد له من إذن سفر، وإذن السفر لبعض الولايات التركية يكاد يكون مستحيلاً.

بين هذه الثنائية عاش الطفل، وبدأت أظافره الطرية تقسو شيئاً فشيئاً، وعالمه كلّه في هذه الحياة هو (البيت الصغير) لا يخرج منه إلا نادراً.

كوّن هذا الطفل صداقات بسيطة وأصبح لديه دائرة معارف، ولكن فطرة الإنسان عنده، مازالت تلحّ بالحاجة الفطرية الطبيعية إلى مجتمع آخر، مجتمع يحتاجه كلّ إنسان، وهو مجتمع الأقرباء.

لدى هذا الطفل أقرباء بالطبع، هو يكلمهم على الواتساب، يرى صورهم، في الأعياد تصبح المكالمة فيديو.. تطول المكالمة لدقائق، ثم تنتهي..

يحدثهم كثيراً عن ألعابه البسيطة التي عنده، يعرف الأقارب كلهم ما هي ألعابه، يستعرضها أمامهم واحدة واحدة في كل اتصال، ولكن حين تنتهي المكالمة، سيلعب وحيداً.. فالأقرباء كان وجودهم افتراضياً فقط.

هذا هول حال غالبية، إن لم أقل جميع الأطفال السوريين الذين يعيشون مأساة اللجوء حول العالم، حيث تمزّق شمل الأسرة، وتشتت شمل الأقارب، وبات كل إنسان بالكاد يجد بعض أفراد أسرته الصغيرة حوله، البعض حتى هذه فقدها.

الخلوة في الليل مع هذه القطع النقدية تفوق خلوة قارون مع أمواله، فالطفل هنا لا يعدّ نقوداً، إنه يستذكر هذه ممن، وهذه ممن، وهذه ممن..

نفسية الطفل تنشأ على حاجة وجود الأقارب بشكل فيزيائي لديه، وليس عبر شاشة بحجم كفه الصغير.. حيث يكلمهم، ثم تتلاشى الصورة، يتشوش الاتصال، ثم ينقطع، ثم يملّ الجميع وينهون المكالمة.

يحتاج الطفل إلى عمٍّ يزوره، إلى أولاد عمٍ وأولاد خال يلاعبهم ويلاعبونه.. الحاجة الماسة للعيدية في العيد، لا يمكن لأموال الدنيا أن تحلّ محلّ العم والخال، والجد والجدة، وهم يقدمون العيدية والتي قد لا تزيد على بضع ليرات.

الخلوة في الليل مع هذه القطع النقدية تفوق خلوة قارون مع أمواله، فالطفل هنا لا يعدّ نقوداً، إنه يستذكر هذه ممن، وهذه ممن، وهذه ممن..

يعيش أطفالنا هذه الحالة الصعبة من العيش المنفرد بعيداً عن العائلة الكبرى، حيث لا أقارب، لا أرحام، لا أبناء عم نلعب معهم ونتشاجر ثم نتصالح.. ولا أولاد خالة نقضي معهم نهارنا والأمهات في جلسات النميمة والغيبة.. والآباء في حديث العمل والحياة..

هذا جزء من حاجاتنا التي فقدناها حين تشتت شملنا، وتفرّقنا بين بلاد الله الواسعة، وبلاد الإنسان الضيقة.

يعيش الطفل مأساة يدرك تفاصيلها ويدفع ضريبتها، وحين نظن أنها مأساة الكبار إلا أنها مأساة الصغير أيضاً، فهو يستيقظ على أخبار الفيزا ولم الشمل، وينام على تهديد الترحيل، هي أخبار الكبار، ولكنه يعيشها كما يعيشونها هم.. يسمعها، ويتأثّر بها، وتترك في نفسه أثراً أقسى مما تحمله -نحن الكبار- نفوسنا التي أثقلتها الهموم حتى تحطمت، فما بالك بهم وبنفوسهم الضعيفة؟

ويبحث الطفل عن سكينته النفسية فلا يجد، وينتظر وهو يعدّ الساعات والدقائق للقاء قريب ما قد يأتي من وراء الحدود، بزيارة عابرة، أو ربما ترانزيت، أو إجازة عيد، وحين يلتقي به، يجلس إليه بشغفِ الحاجةِ النفسيةِ إلى وجوده قربه، كحاجة الطفل لوجود أمه..

إجازة العيد حُرم منها، لا يدري لماذا، وتأشيرات السفر أعقد قضايا القرن الواحد والعشرين، فأرض الله الواسعة يضيقها الإنسان على أخيه الإنسان.. لذا ينام ويستيقظ على حلمٍ ما يزال يراوده: متى ألتقي بأقربائي ونجلس معاً؟

الجميع يبحث عن شيء واحد، وهو عامل "الأمان والاستقرار"، أما الرخاء، والمعيشة، فالسوري أثبت أنه يستطيع أن يصنعها لنفسه ولو عاش في أقصى بقعة نائية على أرض هذه المعمورة

العوائل السورية تفرقت ما بين الداخل السوري، ومناطق الشمال من مدن ومخيمات، والداخل التركي، وبقية دول اللجوء الأوروبي.. وقلّما تخلو دولة حول العالم لا توجد فيها عائلة سورية، أطفالها عاشوا مرارة اللجوء والتنقل بين البلدان بحثاً عن موطئ قدم، وفي حين ينتظر بعض الأطفال رؤية أقاربهم، البعض ينتظر رؤية أحد أبويه، بينما فقد الآخرون الأمل من اللقاء بأحدهما أو كليهما.

ولعل الهاجس الأكبر الذي يبحث عنه السوريون لا يتعلق برخاء البلد أو قوة اقتصادها أو موقعها الجغرافي، فالجميع يبحث عن شيء واحد، وهو عامل "الأمان والاستقرار"، أما الرخاء، والمعيشة، فالسوري أثبت أنه يستطيع أن يصنعها لنفسه ولو عاش في أقصى بقعة نائية على أرض هذه المعمورة.

منذ أيام.. زارت الجدة بيت هذا الطفل، احتفل منذ أن رآها عند الباب، رقص، غنى، ضحك، أخذ هديته البسيطة مكملاً فرحته واحتفاله، لم يتركها ولم يبتعد عنها حتى نامت، هي الأخرى هدّها التعب وأضناها السفر..

وبعد أن انتهت الزيارة القصيرة، وآن أوان الرحيل، انفجر الطفل باكياً، كيف ترحلين أيّتها الجدة؟ أنا أنتظرك منذ سنين طويلة، فكيف تجعلين الزيارة يوماً أو بعض يوم؟

لم تجب الجدة سوى بكلمات مواساة بسيطة، فهي تظنّ أنّه لن يفهم إن حدثته عن الإقامات والتأشيرة وأذون السفر وقضايا اللجوء..

وهي عند الباب قالت له مواسية: غداً سيأتي أصدقاؤك وتلعب معهم في الحديقة..

فأجابها بعينين دامعتين وصوتٍ ما زالت تخنقه العبرة: "لا أريد أصدقاء، أريد أقرباء..!!"