لاجئون إلى الأبد

2023.06.12 | 06:08 دمشق

لاجئون إلى الأبد
+A
حجم الخط
-A

من بين كل الذرائع اختار النظام السوري (معاداة الفكر القومي) ليتهم به اللاجئين السوريين المنفيين شرقا وغربا، وليقنع به الحكومات العربية التي طبعت معه، بعدم جدوى، بل وبخطورة عودة اللاجئين إلى سوريا كما ينادي عدد معتبر من هذه الحكومات.

هذه المقاربة ترددت في تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي نقلا عن مصدر دبلوماسي أوروبي مطلع كما وصف، لكن لا يمكن بطبيعة الحال التأكد من مصداقيتها ولا دقة ما ورد فيها من معلومات.

حسب هذه التسريبات غير المؤكدة، فإن النظام أبلغ محاوريه العرب، أن اللاجئين السوريين وهم بالملايين توزعوا في دول ذات مناخ ديمقراطي يقوم على التعددية السياسية وحرية الصحافة، وقد شهدوا كيف تقوم شعوب هذه الدول باختيار حكامها من خلال انتخابات نزيهة وحرة، وكيف أن من يعارض السلطة أو الحاكم، ويتظاهر ضده، لا يواجه بالحديد والنار، ولا يفقد حريته، وأن القانون فوق الجميع، وكرامة الأمة فوق هوى الحكام أيا كانوا. وروى لهم أيضا كيف أن بعض اللاجئين حصل بالفعل على المواطنة، وشاركوا في الانتخابات ناخبين ومرشحين ومنهم من فاز بمواقع نيابية وبلدية. مثل هؤلاء -حسب ما نقل عن النظام من دون تأكيد- لن يكونوا مؤهلين للعيش مجددا في سوريا، لأنهم باختصار لم يعودوا قادرين على استيعاب فكرة العيش خارج دائرة الحرية التي ذاقوا طعمها، إن لم يكونوا بالأصل قد ثاروا في بلادهم من أجل نيلها.

عند النظام، السوريون المنفيون صاروا متطلبين، يريدون ما هو خارج قدرته وإرادته، بل وخارج حتى رغبة بعض أصدقائه الجدد من الحكومات العربية

بالطبع، لا ينبغي أن يُفهم خطأ أن النظام السوري حريص على توفير بيئة سليمة للاجئين العائدين، بيئة تناسب مدركاتهم الجديدة، ولن يجدوها في بلادهم سوريا، حتى لو تعهد النظام بعدم اعتقالهم أو قتلهم أو على الأقل مساءلتهم عند عودتهم، فالسوريون المنفيون ما عادوا صالحين للخضوع، وليسوا لائقين لسوريا في ظل حكم الأسد، ولذلك فهم سيكونون عند النظام مصدر تهديد أكبر مما كانوا عليه عندما ثاروا أو عندما هاجروا، فقد رأوا بأعينهم، ما كان يخفى عليهم من قبل، والمطالبة بقدر من الكرامة والحرية تحولت عندهم من غاية إلى حياة فعلية يعيشونها، ولن يستبدلوها بمجرد عودة لأرض الوطن.

عند النظام، السوريون المنفيون صاروا متطلبين، يريدون ما هو خارج قدرته وإرادته، بل وخارج حتى رغبة بعض أصدقائه الجدد من الحكومات العربية، فالحرية في منطقتنا لها حدود واعتبارات، وكرامة المواطن بل كرامة الوطن من كرامة الحاكم وليس العكس، وما تعلمه هؤلاء في بلاد اللجوء لم يعد يناسب متطلبات (المواطن المستكين) ولا يلبي احتياجات (الوطن) الذي يريده الحاكم، لا الشعب.

ولأن الحرية هي عند الناس أمل زاحف، وعند الحكام عدوى خطرة سريعة الانتشار، فلن يكون لملايين العائدين المعبَّئين بواقع الحرية، لا بفكرتها المتخيلة حسب، من فائدة ترجى لدور سوريا (القومي) كما يراه النظام أو يبيع وهمه منذ خمسين سنة، وبالتالي فضررهم على سوريا والمنطقة أو حكوماتها بمعنى أدق سيكون كبيرا، وأن (سوريا الأسد) بدونهم أكثر نفعا للنظام العربي بشكله التقليدي من عودتهم، لا سيما أن غالبيتهم قد استقروا في بلدان اللجوء، فلنبقهم حيث هم، ولا نفتح بابا قد يتسبب بكثير من الصداع للنظام بنسخته المستجدة، لا سيما بتبعيته لإيران، وكذلك لبعض النظم القريبة التي ستجد نفسها ملزمة فوق كل ما سبق، بتمويل عودة هؤلاء وتعويضهم أو إعمار ديارهم المهدمة، ومساعدة النظام على استيعابهم وضبطهم، وكل ذلك ليس من الأولويات بل إنه ليس على الطاولة أصلا.

لا عودة قريبة ولا حرة للاجئين، ولن يسمح النظام باستعادة سوريا لهويتها، تحت لواء الحرية، وسيعمل الأسد كل شيء لإعاقة هذه العودة

تبدو هذه الفرضيات أقرب للخيال من بشاعتها، وخطورة ما تحمل من سوء ترتيب لإعادة تركيب سوريا وكامل الشرق الأوسط، لكنها لسوء الحظ تلامس تماما مغزى القضية السورية برمتها، وتتطابق مع الروح الشريرة للنظام وما يدبره، وما ظل يسعى له، منذ عقد ونيف، وصولا إلى (سوريا المفيدة) كما وصفها الأسد، كتعبير حرفي عن سوريا المدجّنة، والسوريين المطواعين، بتركيبة سكانية جديدة، وتوزيع ديموغرافي مختلف، يعيد تشكيل هوية هذا البلد، ومرجعيات شعبه.

وسواء كان ما تناقلته وسائط التواصل صحيحا أم لا، فإن الأمر يسري بهذا النمط، وعلى هذا الطريق، فلا عودة قريبة ولا حرة للاجئين، ولن يسمح النظام باستعادة سوريا لهويتها، تحت لواء الحرية، وسيعمل الأسد كل شيء لإعاقة هذه العودة، حتى لو سمح لبضع مئات أو ربما آلاف بذلك، وهم لا يشكلون أية نسبة تذكر من نحو ستة ملايين لاجئ، وما يقرب من أربعة ملايين نازح.

هل هي جريمة النظام وحده؟ المشكلة أن الأمر تعدى مرحلة الجريمة إلى المؤامرة الكبرى، وإعادة تشكيل المنطقة، وسواء وعى المطبعون مع الأسد ذلك أم لا، فإنهم يمنحونه على الأقل فرصة الاستمرار فيها بأريحية ودون ضغوط مؤثرة. ومن يدري متى يمكن أن نصل إلى نقطة اللاعودة، حيث تصبح (سوريا الجديدة) أكبر لغم في جسد الأمة، ومن يدري أيضا فقد يكون على المجتمع الدولي أن يصدر قرارا يمنح فيه السوريين حق العودة إلى بلادهم، كما منحها يوما للفلسطينيين ولم ينفذها أبدا.