كيف يساعدنا غوستاف لوبون في فهم الثورة السورية؟

2023.05.19 | 06:07 دمشق

غوستاف لوبان
+A
حجم الخط
-A

لا شك أن مصير الثورة السورية اليوم لا يرقى لتطلّعات من قام بها عام 2011. إذ على الرغم من التوقعات الكبيرة التي صاحبت أيامها الأولى، إلا أن الثورة ما لبثت في غضون سنين قليلة، إن لم يكن أشهر، أن تحولت إلى حالةٍ من الفوضى وخصوصاً بعد دخول الميليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني على الخطّ، وما رافق ذلك من تحوّلٍ في أمزجة الثوار نحو الحالة التدينية.

كانت النجاحات الأولية للثورة مبهرة بكلّ المقاييس، فقد سيطر المنتفضون بوجه النظام في غضون عامٍ ونيّف على مساحاتٍ شاسعة من البلاد. لكن بعض الثوار، الذين نهضوا بالأصل لاسترداد حريتهم وكرامتهم، ما لبثوا أن نسوا أنفسهم. فبدلاً من تطبيق أهدافهم الأصلية ومُثلهم الديمقراطية في المناطق التي سيطروا عليها، صاروا هم أنفسهم قمعيّين وطغاة. تطلع الكثير منهم للسلطة والثروة، ودخلوا في معارك داخلية طاحنة، ولم يلتفتوا إلا قليلاً لإرساء القانون ومساعدة المدنيين الذين علقوا في أتون الحرب. والبعض من الثوار تحول إلى التعصب الديني وصار يلهج بشعاراتٍ لم تكن لتخطر بباله أبداً بداية الثورة، وانعكس كل ذلك على المجتمعات المحلية التي وقعت تحت سيطرة الثوار. وقد نتج عن كل ما ذُكر سيادة الفوضى والافتقار لحكم القانون، بل ولصوت العقل، ما جعل الحياة في "المناطق المحررة" أشبه بالجحيم أحياناً.

في عام 2015 وعندما كنت بزيارة معرضٍ للكتاب العربي أقامته منظمات سورية في مدينة غازي عنتاب جنوب تركيا عثرت على كتاب (الثورة الفرنسية وروح الثورات) للمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون (1841-1931). اشتريت الكتاب على الفور وكانت تلك أول مرّة أنتبه فيها أني يجب أن أقرأ شيئاً عن الثورات في العالم وأقارنها بالثورة السوريّة لأنظر أين نجحنا وأين أخفقنا.

حملتُ كتاب لوبون معي إلى بيتي الصغير في ضاحية "رصاف يولو" الهادئة وبدأت أقلّب صفحاته بتردّدٍ خائفاً من عواقب مقارنة الثورة السورية بالثورة الفرنسية العظيمة التي أعطت للعالم شرعة حقوق الإنسان، وأشاعت مناخ التحرر السياسي والفكري في أوروبا والعالم بأسره منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى بعد الحرب العالمية الثانية.

إن قراءة غوستاف لوبون هي ضرورة ملحّة للسوريين كي يفهموا ما حصل في بلدهم بعيداً عن تحميل أنفسهم أوزاراً ظالمة فوق أوجاع ثورتهم المهيضة

لكني تفاجأت عندما بدأت أمرّ على فصولٍ وصفحاتٍ من الكتاب تصف أحداثاً فوضوية، وتطوراتٍ عبثية ضربت المجتمع الفرنسي ليس لها علاقة بالحرية ولا بحقوق الإنسان. فقد ذكر لوبون في كتابه أفعالاً قبيحة وحوادث إجرامية ارتكبها ثوار فرنسا تضارع ما ارتكبه بعض ثوار سوريا، وتبزّه أحياناً. فالقارئ لكتاب لوبون لا يلبث أن يستنتج أن الثوار الفرنسيين لم يكونوا متسامحين على الإطلاق، بل على العكس، فقد اتّسموا بالتعصب الأعمى، والعداء الشديد لكل من خالفهم، فأسسوا المحاكم، وملؤوا السجون بالموقوفين، وفرضوا حكماً إرهابياً على المناطق التي خضعت لهم. وحسب غوستاف لوبون، فقد آمن الثوار الفرنسيون أنهم كانوا كالأنبياء الذين أتوا بدينٍ جديد ولم يروا أية مشكلةٍ في ارتكاب أقبح الأفعال من أجل حمل الناس على أفكارهم. وهكذا هاجم الثوار -الذين من المفترض أنهم كانوا علمانيين- أفراد الأقلية البروتستانتية وقتلوهم وهجّروهم باسم الثورة. كما أنهم اقتتلوا فيما بينهم لدرجة تنفيذ الاغتيالات وإجراء أحكام القتل على المقصلة ضد بعضهم البعض بعد محاكماتٍ هزليّة ومتعجّلة. كما أن عوام الفرنسيين الذين التحقوا بالثورة لم يكن لهم من همًّ -مع غياب الشرطة وسقوط الحكم- سوى النهاب والسرقة والسطو على قصور الأغنياء والنبلاء. بل وهناك من العوام من ارتكب أقبح الموبقات التي لا نشهد لها مثيلاً في الثورة السورية إلا عند تنظيم داعش، فنجد آباراً تُملأ بالجثث، وقبوراً تُهدم، ورؤوساً تُقطع وتُعلّق في الساحات العامّة. وهناك من "دواعش" ثوّار فرنسا من أجبر المحكومين بالموت على حفر قبورهم بأيديهم لدفنهم فيها، ومنهم من عمد لاستخدام الأطفال في تنفيذ الإعدامات.

أعجبني كثيراً أسلوب لوبون في كتابة التاريخ دون تجميلٍ وأيقنت أنه رجلٌ حكيم ومنصف يستحق أن أبحث في أعماله الأخرى. وهكذا عثرت على كنزٍ آخر عنده يساعد في تقديم مزيدٍ من الإضاءات. في كتاب (علم نفس الجماهير) نفهم من غوستاف لوبون أن الكلمة في أوقات الاضطراب والفوضى هي للغريزة وليست للعقل، للجماهير الهائجة وليست للناشطين المتّزنين، وأن الإنسان كفردٍ في جماعةٍ هائجة قد تضربه أهواء لا يمكن أن تتملّكه عندما يكون وحده، أو حتى ضمن الجماعة، وإنما في أوقات السلم. كما أن (علم نفس الجماهير) يساعدنا كي نستوعب أن أهداف الثورة مهما كانت عظيمة لن تتحقق في مدينةٍ من المدن أو بلدٍ من البلدان إلّا عندما يرسو حكم القانون ويسود الانضباط ويعمل جهاز الشرطة بكلّ تمكّنٍ وكفاءة. وهذا الأمر عالميّ ينطبق على كل البشر وليس على السوريين أو الفرنسيين وحدهم.

لم أنقطع منذ عام 2015 عن العودة إلى كتاب (علم نفس الجماهير) وخصوصاً مع انتشار جائحة كورونا في السنين الأخيرة. فما زلت أذكر قبل نحو ثلاث سنين تلك الأحداث الغريبة التي وقعت عندما أعلنت الحكومة الفرنسية أنها ستطبّق حظر التجول بسبب أول موجة من موجات كورونا. كنت أعيش في مدينة ليون يومها وقد شاهدت المواطنين الفرنسيين يهرعون لمراكز التسوق كقطعانٍ ليس لها نظام فيتلقّفون الأطعمة المعلّبة ومحارم التواليت بصورة تُريعكَ وتضحكك في الوقت نفسه، قلت لنفسي ساخراً، "ها أنت يا فتى في بلد غوستاف لوبون!"

كنت أتساءل بيني وبيني نفسي، "ماذا يجري؟" وأذكر أن محارم التواليت اختفت من مراكز التسوق لأيام قليلة مع أنها موجودة في البلاد وإنتاجها غزير لم يتوقف. لكن سُعار محارم التواليت لم ينته إلا عندما قامت مراكز التسوق الكبرى مثل كارفور ولوكلير بتكويم جبالٍ منها في وسط المتاجر وعند مداخلها، حتى اقتنعت الجماهير أخيراً أنها لن تعدم أبداً ما تمسح به مؤخراتها، فسكنت الغرائز ووصل سُعار التسوّق إلى نهايته.

وبعد، فإن قراءة غوستاف لوبون هي ضرورة ملحّة للسوريين كي يفهموا ما حصل في بلدهم بعيداً عن تحميل أنفسهم أوزاراً ظالمة فوق أوجاع ثورتهم المهيضة. فالفوضى واختلال النظام العام وانفجار العصبيات من طائفية وغيرها ممّا وقع في سوريا، وقع من قبل في الثورة الفرنسية، ويقع في أي مجتمعٍ بشري تنعدم فيه سلطة القانون. كما أن الفكر التحرري الإنساني الذي أبدعه فلاسفة التنوير الفرنسيون مثل جان جاك روسو، ومونتسكيو، وفولتير لم يجد طريقه إلى فرنسا والعالم في الدور المضطرب من الثورة الفرنسية، بل احتاج الأمر عقوداً حتى هدأت ثائرة النفوس، وعاد حكم القانون، وتمت السيطرة على الغرائز المنحطّة، والدوافع المتحلّلة. عندها فقط صدّرت الثورة الفرنسية صورتها البيضاء الناصعة للعالم.

وأنا متفائلٌ اليوم أن الثورة السورية التي جذبت إليها أقلام أدباء سوريا الكبار، ومفكريها الأحرار، وسياسييها النابهين، وضبّاطها الأشراف سوف تعطي ثمارها الطيبة يوماً ما، ولعلّها بدأت بالفعل مع شتات السوريين في كل مكان. فالسوري الذي خسر وطنه اليوم، يدرك أنه امتلك العالم بالمقابل، وصار يفكر بنفسه وببلده وبالعالم بطريقةٍ لم يعهدها من قبل. ولعلّ هذه بالضبط هي نقطة البداية.

 

كلمات مفتاحية