icon
التغطية الحية

كيف نقرأ "جودت سعيد" في الإطار السوري ما بعد آذار 2011؟

2022.04.14 | 23:43 دمشق

jwdt_syd-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

أعاد رحيل الشيخ جودت سعيد تفعيل بعض الأسئلة المهمة حول قضايا كان سعيد مشغولا بالبحث فيها والتنظير لها في كتبه المعروفة، ويمكن تلخيص هذه الأسئلة –القضايا بـ: ما الجدوى من نظرية اللاعنف والسلمية في حالات مثل الحالة السورية المشبعة بالدم والعنف والرعب ولا سيما بعد آذار 2011؟ وهل يمكن الاحتكام إلى مفاهيم السلمية والجهاد الفكريّ أمام توحش آلة القتل والاعتقال والتهجير مع ما رافق ذلك من انفلات مرعب لغرائز العنف؟

وما لوحظ على انتقادات وجهت إلى مشروع اللاعنف ممثلا بالراحل جودت سعيد، أنه تمّ النظر إليه مقترنا بظروف مأساوية تعيشها سوريا مما جعل التفكير في نظريته ومشروعه أمرا لا يخلو من الآراء المسبقة الراهنة والمقحمة من خارج بنية هذا المشروع نفسه. فالشيخ سعيد طرح أفكاره تلك كلها في كتبه التي طبعت جميعها قبل آذار 2011 أي أن مشروعه لم يكن اجتهادا متعلقا بسوريا ما بعد 2011 بل إن مشروعه تبلور وتراكم وفق مراحل متتابعة ليس من بينها مرحلة الثورة السورية.

علما أنه بات معروفا أن بدايات الانتفاضة كانت تعبيرا نموذجيا وغير مقصود لأفكار اللاعنف والسلمية التي كان الراحل يبحث فيها، فقد كانت ثورة السوريين تجسيدا عمليا موثّقا لفكرة جودت سعيد وغيره من دعاة اللاعنف. مما يعني أن هناك إمكانية واقعية وتاريخية لتحويل فكرة اللاعنف إلى فعل ماديّ على وجه الأرض. أما ما جرى فيما بعد من سيطرة القوة والتدمير والقتل فهذا لا يعني أن نرمي بفكرة جودت سعيد في البحر حاكمين عليها بالفشل. وهذا لا يعني أيضا أن الراحل كان يريد من جموع الثائرين أن يتحولوا إلى طاقة سلبية تتلقى الرصاص وتسكت دون استخدام الحق المشروع في الدفاع عن النفس والحقوق الأخرى. فهذا يتنافى مع أي مرجعية أخلاقية سواء أكانت مستمدة من الدين أم من القانون الدولي.

ولكن إنصافا للشيخ جودت ولأمثاله من دعاة اللاعنف، فينبغي وضع الأمور في سياقاتها المنطقية والتاريخية وعدم خلط الأوراق حتى لا ننتج أحكاما مشوشة على نظرية اللاعنف كلها. مما يحتم علينا قراءة تجربة جودت سعيد في إطارها النظريّ لنرى كيف تشكلت رؤيته وما هي مسوّغاتها المعرفية والأخلاقية. فقد كان سعيد يدور في أفق المفكر الراحل مالك بن نبي، ولا نجافي الصواب حين نصف الشيخ جودت بأنه وارث لفكر بن نبي بجدارة، وهذا ليس اكتشافا عظيما طبعا، فهو متاح وجليّ لكل من يعنى بقراءة مشروع الرجلين.

وفي نظرة بانورامية للسياق الذي ولدت فيه أفكار مالك بن نبي يمكننا وضع اليد على فحوى نظرية جودت سعيد التي لم تكن معنية أصلاً بإيجاد حلول شاملة لوضعية مأساوية كالتي تعيشها سوريا الآن. ففكر بن نبي ولد في إطار البحث عن أشكال ممكنة لنهضة إسلامية اعتمادا على أساليب فكرية وثقافية تنمو وتتطور في حوارات من خلال عملية تراكمية طويلة الأمد وتؤثر في عمق الأفراد وبالتالي المجتمع الإسلامي مع الزمن. ولم يكن مطلوبا من هذا الفكر الدعوة إلى ثورة تغيير انفجارية، فالنهضة عند بن نبي لها مكوناتها ومحاورها القائمة على مسائل ثقافية فكرية أخلاقية اجتماعية ليس من بينها ثورات كالثورات المعروفة في التاريخ المعاصر. ومالك بن نبي كان بدوره وريثا شرعيا لفكر عصر النهضة العربية كلها، لكنه كان يمثل الجانب الإسلامي من المسألة والتي بدوره جاء الشيخ جودت سعيد ليكمل المسار وفق رؤيته هو أيضا ومن داخل تلاقحه الثقافي مع فكر بن نبي.

يسير فكر جودت سعيد وفق مساراتٍ قد يكسرها وجود سلطة دموية كسلطة الأسد، أو يضعها أمام نقطة فراغٍ محرجة، ففكره ينبغي أن تتوافر له أوضاع عامة تسمح له بالتعبير عن تطوره وتأثيره

جودت سعيد كان يفكر في جعل النهضة نتاجا لعملية متواصلة أفقية وليست شرخا عموديا يخلخل المجتمع ويدفعه للفوضى، يريد الاعتماد على التفكير في النفس والعقل من داخله دون اللجوء إلى أدوات قتالية عنفية، إذ لا طائل عنده من ذلك طالما أن التغيير لا يتم في أعماق النفس البشرية. الثورة عنده تبدأ من عالم داخليّ للفرد كإنسانٍ مسلمٍ واعٍ حواريّ وليس كمقاتل في جماعات قتالية، لهذا طرح فكرة الجهاد الفكري التي ليست ببعيدة عن المعنى العميق والاستراتيجي للجهاد المعنويّ والأخلاقيّ القائم على ترتيب نزعات النفس وضبط أهوائها وانفعالاتها. وهذا يمتلك أهمية بمكانٍ حين نضعه مقابل فكر المشاريع الراديكالية التي حرصت عليها جماعات دينيةٌ في صراعٍ مرير مع السلطات العربية سواء في مصر أو سوريا على وجه الخصوص.

يسير فكر جودت سعيد وفق مساراتٍ قد يكسرها وجود سلطة دموية كسلطة الأسد، أو يضعها أمام نقطة فراغٍ محرجة، ففكره ينبغي أن تتوافر له أوضاع عامة تسمح له بالتعبير عن تطوره وتأثيره، لا شكّ أن مشروع اللاعنف مشروعٌ يتناقض مع معنى (الثورة) بالمعنى التقليدي، لكنه ينسجم ربما من وجهة نظر أخرى مع فكرة (الثورة الدائمة) ولو كان من زاوية مختلفة. ولو أتيحت الفرصة المثمرة لفكر جودت سعيد عبر الزمن ووسائل الإعلام السورية والعربية والإسلامية، لشكّل فكره نقطة جذبٍ واهتمام أكثر مما جرى. لكن ليس من مصلحة أنظمة ديكتاتورية كنظام الأسد أن يشيع تفكيرا إسلاميا ليس مواليا له، يكون من دعاة السلمية واللاعنف، مع أن النظام اضطر صاغرا للجوء إلى خطاب جودت سعيد في مرحلة ما، لكن ذلك كان في الوقت الضائع.

كان جودت سعيد يصب اهتمامه على تقديم الدين كفعالية ثقافية قائمة على تثوير الذات المسلمة من خلال طرحها لأسئلة معاصرة ولا تنكفئ على داخلها وتنغلق في الماضي. فهذه الذات لا يمكن لها تحقيق التغيير إلا من خلال عملية تشاركية مع الآخرين حتى من غير المسلمين للوصول إلى نهضة اجتماعية لا تقتصر على جماعات إسلامية وحدها، بل تتناول المجتمع برمّته. وهذه النهضة التي تتم بفعل مستمرّ يحمل طابع الديمومة لا ينسجم مع العنف وأساليبه فهو يعتبر العنف مرضا من أمراض العصر. والمهمّ أن سعيد كان يرى هذا العنف ليس خاصا بالمسلم وحكرا عليه، بل يراه في تفكير بعض اليساريين والعلمانيين، الأمر الذي يعني خللاً في طرق التفكير التي ينبغي تغييرها اعتمادا على تغيير وتطوير أساليب التربية والتعليم والتثقيف من أجل خلق مناخ عامّ من الحوار والقبول.

حين يتجرأ جودت سعيد فيقول (إن المشكلة مشكلة إنسان لا مشكلة عقيدة)؛ فهذا يعني بوضوحٍ أن الهدف من التغيير ليس متعلقا بالعقيدة ومن يحملها بقدر ما يتعلق بالإنسانِ بصورة أساسية، وهو يذهب أبعد من ذلك حين يرى أن المسلمين تعلقوا بكثير من الأوهام... إن من يحمل هذه الأفكار لم يكن مسموحا له أن يعمّم خطابه في أوساط المجتمع السوريّ في حكم الأسد، فالأسد كنظام متكاملٍ في السياسة والدين والإعلام يهدف إلى تشكيل نمط من الدينِ يتناسب مع طبيعة السلطة القائمة على الثبات والرسوخ لا التغيير والتطوير حتى لو كان سلميا بطريقة جودت سعيد.

إن الشيخ جودت سعيد يوجه الأنظار إلى الجدوى الأخلاقية لغايات التغيير وأساليبه، وكان يشغله كيف نستنبط أدوات تغيير ثقافية إسلامية للوصول إلى تغيير سياسيّ. فالسياسة هي صورة لأفكار الناس السائدة، وحين تتغير  وتثور هذه الأفكار على نفسها، ويصبح ذلك سلوكا جماعيا، فسوف يتولد عنه بلا شكّ وعيٌ سياسيّ جديد يغيّرُ ويبدل على مستويات أعلى في المجتمع، ومنه سوف تتشكل سياسة بديلة، تقوم بها دولة بديلةٌ.

لا يخفي جودت سعيد رفضه للعمل المسلّح، انسجاما مع مشروعه اللاعنفيّ، وكان يردد الفكرة القائلة إنه إذا انتصرت ثورة بالسيف فسوف نبقى محكومين بالسيف الذي انتصرت به. إن ترجمة هذه الفكرة إلى خطاب معاصر يعني أننا لا نحتاجُ إلى تغيير قوة حاكمة بقوّة حاكمة أخرى تمتلك السلاح نفسه، لا نحتاج إلى استبدال ديكتاتورية بديكتاتورية شبيهة. والسيف الذي يرد في كلامه يقود إلى معنى السلاح والانقلاب العسكري الذي عرفت به بلادنا حتى انقلاب الأسد عام 1970.

خلاصة القول إن جودت سعيد أراد استيلاد صورة سلمية للدين وتقديمها للتداول الفكريّ والسياسيّ، وجعل من اللاعنف مشروعا ومنهاجاً لتغيير الفرد من داخله حتى يستطيع التغيير على صعيد المجتمع، القادر على بناء نظام بديلٍ بطرقٍ ثقافية سلمية حوارية.