كيف أصبحتُ مهرباً دون أن أدري؟

2022.09.03 | 05:34 دمشق

كيف أصبحتُ مهربا دون أن أدري؟
+A
حجم الخط
-A

يحدثني صديقٌ مقيمٌ في أوروبا أنَّ شقيقة له، تقيم في سوريا اتصلتْ به، تطلب منه مساعدة ابنها كي يصل إلى أوروبا، وأن تلك المساعدة دينٌ مؤجل سيسدده خلال سنة من وصول ابنها إلى البلد الأوروبي.

يتابع: لم أكن أملك المبلغ المطلوب، اجتمعت مع أفراد العائلة، وجمعنا المبلغ، ما بين بيع قطعة ذهب من هنا، وديون صغيرة من أصدقاء مقربين من جهة أخرى، وما بين أيدينا من نقود.

سألتُ أختي عن مكان التحويل، فربطتني بابنها الذي وصل رأس العين في سوريا، بعد أن دفع لكل من حواجز قسد وحواجز الجيش الوطني.

أمَّنا مبلغ "ألف يورو" للمهرب من أجل تجاوز الحدود السورية التركية، عبر التحويل المباشر لحساب شخص ضامن، من خلال مواطن سوري ألماني من أولئك الأشخاص الموجودين في كل المدن الأوروبية، يتولون إرسال الحوالات مقابل نسبة تتراوح بين عشرة إلى خمسة عشر بالمئة من ثمن الحوالة، هم أقرب للسماسرة، يلجأ إليهم الجميع بمن فيهم معظم المنظمات والمراصد الموجودة في سوريا، في ظل التشديد الأوروبي على ما يتم تحويله إلى سوريا استجابة لقانون أميركي يتعلق بتمويل الإرهاب.

يتابع صديقي: لم تنجح محاولات ابن أختي بعبور الحدود، فاضطررنا إلى زيادة ميزانية التهريب، وتم رفع المبلغ إلى أربعة آلاف يورو كي يعبر الحدود بأمان، بعد أن تدخلت شقيقتي وأرسلت لي صوره، وقد كان في حالة بين الحياة والموت، بعد أن ضربته الجندرما التركية ضرباً جعله يزور حدود الموت، الجندرما التي تحاول أن تحمي حدود بلدها من القادمين السوريين، وتقتضي الأمانة كما يقول صديقي: إن مشاهد التعذيب والضرب تدمي القلوب، الجندرما تعلم جيداً أنه ما من سوري هدفه في هذه اللحظة المجيء إلى تركيا للإقامة، لكن لا طريق أمامهم للعبور إلى أوروبا غير هذا الطريق، لكنها قوات حرس حدود ويجب أن تمنع دخول الأجانب كما يقول تصريح صحفي صادر عنها.

تحقق الهدف وإن اختلفتْ الوسيلة والمبلغ وسهولة الوصول عن الطرق الأخرى، يُطلق على هذا النوع من التهريب "اسم التهريب النظامي"

وبما أن البشر الساعين لتحقيق أهدافهم لن يعدموا الوسائل لذلك؛ فإن هناك كذلك (محققي أهداف) دائماً، يستثمرون في حاجات الناس ويلبونها بطريقة أو بأخرى، وكان محقق الهدف هذه المرة ضابطاً في الجيش الوطني، مهمته الرئيسية تتمثل في تطويع الشباب الراغبين بالوصول إلى أوروبا، ثم منحهم إجازة يقضونها في تركيا، فيعبرون الحدود بأمان، وهذا ما حدث، تحقق الهدف وإن اختلفتْ الوسيلة والمبلغ وسهولة الوصول عن الطرق الأخرى، يُطلق على هذا النوع من التهريب "اسم التهريب النظامي".

وهكذا بعد أن وصل ابن أختي إلى أورفا تمّ إرسال فيديو إلي عبر الواتس أب لتأكيد ذلك وبالتالي ليتمّ تسليم المبلغ عند الجهة الضامنة هناك، وهذا ما حدث.

بعد وصول ابن شقيقتي إلى أورفا استعنتُ بصديق كي يؤمن له مكاناً للنوم ريثما يتمّ تأمين سيارة تقوم بنقله إلى إسطنبول، وهكذا صارت تأتيني رسائل من عدة سائقين يقدمون عروضهم، إلى أن تمّ الاتفاق مع أحدهم.

أما رقمي فقد انتشر على الحدود السورية التركية، وصرتُ دليلاً لذلك الضابط كي يطوع المزيد من الشباب السوري المضطر كما يقول، حيث أكد لي حرفياً: (يجب أن نساعد الشباب على الهروب من الجحيم الأسدي القسدي)، وما كان مني إلا أن أشدتُ بدوره الوطني في خدمة شبابنا، ولأنه شعر أنني أغمز من قناته قال لي: لا تظن أن النقود تذهب إلى جيبي فحسب، بل يتم توزيعها على عدد كبير من المتعاونين معه.

 في حين بقيت تأتيني اتصالات ممن يريدون سعر الألف يورو، مضحين بالمشاق والضرب الذي يمكن أن يتعرضوا له فيما لو أمسكت بهم الجندرما، وبدا أن نسبة النفاذ تختلف من يوم إلى يوم آخر، بل إن أكثر من مهرب اتصل بي يعرض خدماته، وواعدتهم خيراً وأنني سأوزع أرقامهم على الراغبين بالهروب من الجحيم السوري.

وهكذا وجدت نفسي أولاً بأول أدخل عملية التهريب، وأبدأ بالاطمئنان على الأشخاص، وهل وصلوا. عددٌ منهم يبادرون فيرسلون لي فيديوهات يطمئنونني على وصولهم، أو ترسل أمهاتهم دعاء لي وأنني ابن حلال، بحيث وجدت نفسي أنني إنسانياً أتقاطع معهم وأرغب بالاطمئنان عليهم، إلى أن اجتمع أطفالي حولي ولديهم سؤال واحد: بابا هل أصبحت مهرباً؟

أجبتهم: لا يا بني أنا أساعد الناس فقط، الناس يسألونني وأنا أجيبهم، أولاد بلدنا أولئك الشباب يجب أن نساعدهم!

استغرب أطفالي ذلك، وقالوا لي: إنني أقضي نحو 8 ساعات يومياً أرد على الاتصالات وأنسّق مع المهربين وأخبر المتصلين بمعلومات عن هولندا، وأي الطرق أقصر وأفضل، وما هي آليات لمّ الشمل والمكافآت المالية، لم أناقشهم بما طرحوه، أو أقل لهم إن ذلك جزء من دين علي، وإنني أكسر بذلك رتابة الحياة في البلاد الجديدة.

بعد فترة قصيرة، اتصلتْ بي سيدة لم أكن أعرف رقمها من قبل قائلة: إنها حصلت على رقمي من فاعل خير، وإنها تريد أنْ تُسَفّر ابنها الوحيد إلى هولندا حصراً وعن طريقي، لكنها لا تملك ليرة سورية واحدة، وحدثتني عن أفراد عائلتها الذين قتلوا من كل المتحاربين في سوريا، وأنها تريد لطفلها الوحيد المتبقي، أن ينجو وبما أن عمره نحو 17 عاماً؛ فإنها تأمل أن يصل في أسرع وقت، كي يُجري لها معاملة "لمّ الشمل" بما أنه لا يزال في مرحلة الطفولة.

يقول صديقي: فكرتُ بمخاطبة منظمة آفاز أو أن نقوم بطلب مساعدة أونلاين للتبرع، لكن تلك الحملات لا تغطي أجور التهريب عادة، وليس معي نقود وما باليد حيلة، لكنني متعاطف أشد التعاطف مع حالتها، وبدا أنها سيدة ذات حياء عال ولا تريد أن تهين نفسها بالإلحاح.

لم أجد رداً إيجابياً سوى من شخص واحد، عرض عليَّ فكرة مهمة وجدتها هي الخلاص، حيث قال لي: أمّن لي خمسة أشخاص، وقتها أخرج الشاب الذي حدثتني عنه مجاناً

فكرتُ للحظة بما سبق أن قرأته في إحدى الروايات، حول أن المجرمين والمهربين والقتلة لديهم نقطة أخلاقية معينة يمكن الوصول إليهم من خلالها، وهكذا صنعتُ قائمة بأسمائهم وعاودت الاتصال بهم بحثاً عن تلك النقطة الإنسانية، لم أجد رداً إيجابياً سوى من شخص واحد، عرض عليَّ فكرة مهمة وجدتها هي الخلاص، حيث قال لي: أمّن لي خمسة أشخاص، وقتها أخرج الشاب الذي حدثتني عنه مجاناً.

وجدتُ فيما طرحه المهرب مخرجاً معقولاً لمساعدة تلك السيدة المتعَبة، وهكذا بدأت أبحث في الأرقام التي سبق أن اتصلتْ بي تسألني عن المهرب أو عن الحدود أو عن هولندا وأعرض عليهم فكرة وجود مهرب عبر الحدود السورية التركية بسعر محدد، وتقتضي الأمانة أنني وجدت استجابة كبيرة من عدة  رسائل تصفني بـ "مهرب ابن حلال" لأنني "حلبتْ معهم صافياً" في مرات سابقة كما وصفني أحدهم.

وما هو إلا أسبوع حتى استطعنا أن نؤمن خمسة أشخاص يريدون عبور الحدود السورية التركية، إضافة إلى ابن تلك السيدة، ومن حسن حظي وحظها أن المجموعة قد استطاعت عبور الحدود من المحاولة الأولى، فاتصلت السيدة تشكرني على ما قمت به، راجية أن يكون ذلك في ميزان حسناتي، وختمت المكالمة بالقول: إنها تأمل أن يحالفنا التوفيق في المراحل التالية، التي تابعتُ أخبارها عبر التيكتوك والانستغرام وهي: مرحلة إسطنبول سالونيك، ومرحلة سالونيك صربيا ومن ثم مرحلة صربيا براغ وأخيراً مرحلة براغ إلى أمستردام.

ولما لم أكن أعلم شيئاً عن تلك المراحل فقد استعنتُ بأبي خطاب، الذي ساعدني في المرحلة الأولى، وقد زودني بعدد من الأرقام، لأشخاص مهربين يشتغلون بـ "نور الله" كما يقول. وختم مكالمته: بأنه عاتبٌ علي لأنني لم أعد أجلب له زبائن راغبين بعبور الحدود، وقد واعدني أنه يمكن أن يزود لي النسبة عن الآخرين، في حال كان عدد الزبائن شهرياً أكثر من المرة الماضية.

واعدتُه خيراً وأطرقتُ واضعاً رأسي بين يدي، وأنني دخلتُ في دوامة التهريب، خاصة أن الاتصالات لم تنقطع ما بين شكر وطلب مساعدة يتمثل: "نريد مهرباً ابن حلال مثلك، صادقاً وأميناً".

دون سابق إنذار تذكرت مقطعاً روائياً قديماً، لم أعد أتذكر كاتبه: أدفأُ علاقات الحب هي تلك التي نقع فيها، دون أن نخطط لها أو نهيئ أنفسنا لها، تجرنا أقدامنا نحو جسوره فيما نحن منهمكون في أشياء أخرى، لكنه يقودنا من حيث لا ندري إلى ممر واحد لا يتسع سوى لحبيبيْن.

تساءلتُ: هل وقعت في مصيدة التهريب وغدوت مهرباً دون أن أدري، خاصة أن التهريب يدغدغ رغبة جمع المال السريع، وهو مسعى أصيل في النفس البشرية، وإنْ أطلقنا عليه صفات سلبية في الوقت الذي نكون منهمكين بجمعه.