"كلن يعني كلن الشعار" الذي عجزت عنه الأحزاب وأشباه المثقفين

2019.11.02 | 18:12 دمشق

5dad607942360440a937adb3.jpg
+A
حجم الخط
-A

تضع الأنظمة الديكتاتورية شعوبها أمام خيار وحيد: إما أن تبقى حاكمة إلى الأبد، أو تحرق البلد. لا ممكنات أخرى، ولا آفاق للحلم، ولا حلول محتملة؛ إنها تحشرهم حشراً بين أبدين: أبدهم المعتم اليابس القاحل، وأبد القبر الذي لا أبد بعده. وكلا الأبدين أبد واحد، حتى إن تناسل إلى آلاف الآباد الناصلة الهزيلة؛ مادامت من مشتقات الأبد الأول؛ ومادام الشعب بما هو أصل وأساس ووعد واحتمال وأفق مستبعداً أو مقتولاً أو مطروداً. هكذا يتشاطرون ويراوغون؛ لكيلا يحضر الشعب سيداً ليومه وقراره ومصيره؛ لأنه إن حضر غابوا؛ إذ لا ميزة لأي منهم، ولا ميزة لكلهم مجتمعين سوى ريحتهم الطالعة.

وعلى هذا، عندما نتحدث عن المؤامرة التي تتدخل في هذا النمط من علاقات العالم؛ فتهندس الحكم في بلد ما، وترسمه، وتشكله، فهذا لا يعني أننا نقصد الفهم المتطرف الذي يذهب إلى حد الاقتناع، بأن كل ما يحدث على سطح هذا الكوكب مرسوم بدقة في أماكن سرية من هذا العالم. بل إننا نقصد الخطط التي تخطها مراكز أبحاث وسياسات استراتيجية، تعمل على خلق المقدمات الضرورية لاستدامة تبعية هذه المنطقة أو تلك لمصالح جهات خارجية، أو لفتح السبل أمام هذه التبعية التي تستدعيها مصالح هذا الخارج الذي صار داخلاً.

ولعل أهم ما كشفت عنه ثورات الربيع العربي، هو هذا الإنجاز شديد الأهمية رغم تواضعه:

 أولاً- إن النظام الدولي يتقصد إبقاء صيغ الحكم الديكتاتورية في منطقتنا، ويتعمد إقصاء شعوبها عن امتلاك قرارها، وهو من أجل ذلك يحاول تهيئة كل المقدمات التي تتيح له فرض مصالحه عبر تفخيخ هذه المجتمعات بعوامل ضعف متعددة الأوجه، تختلف من بلد إلى بلد آخر حسب بنيته الاقتصادية أو القومية أو الطائفية...إلخ.

وثانياً- قد ظهر أن شعوب هذه المنطقة مصممة على امتلاك قرارها، وأنها- في ثوراتها التي لم تهدأ- تؤسس مرحلة جديدة من أهم سماتها الوعي: وعي هذه الشعوب لحقوقها السياسية، ووعيها لطبيعة الأنظمة التي تحكمها، ووعيها لدجل رجال الدين المنخرطين في السياسة، يضاف إلى كل هذا أن هذه الشعوب لم تعد تهتم بالإيديولوجيات ولا بالشعارات، وأنها أعادت ترتيب قائمة أعدائها؛ فوضعت الاستبداد عدواً أول لها.

وثالثاً- إن "قوى التحرر"- ومؤسساتها في بلداننا- التي تشمل النخب السياسية والثقافية والفكرية، قد كانت دائماً أسيرة وهم نظريات باطلة، وبالتالي فإنها لم تستطع تأسيس وعي، وتنميته واختباره حتى تتمكن من الوقوف في وجه الإضعاف المتعمد لمجتمعاتنا، وبالتالي عجزت عن خلق وعي وطني ينقل الصراع من أشكاله الزائفة إلى المواطنة العلمانية الديمقراطية بما هي الموضوع الرئيس للصراع السياسي وغايته في هذه اللحظة التاريخية الخاصة في ديناميكيات اللحظة العولمية العامة.

إن ما يجب التوقف عنده والتعمق فيه، هو: إن الشعب قد طرح

" كلن يعني كلن"، يشير إلى وعي سياسي حديث، يكثف فهماً جديداً طازجاً ومفاجئاً؛ فهو عدا عن كونه تجاوزاً كبيراً لصيغة النظام الطائفي اللبناني

في ثوراته ما هو متقدم بمسافة نوعية عن الأحزاب السياسية العربية كلها، بما فيها تلك الأحزاب التي ادعت- ومازالت- أن اغترابها عن الفعل السياسي المجدي يعود في جذره الأساس إلى تخلف البنية الاجتماعية التي تعجز عن فهم ما ينبغي لها أن تطرحه.

وواحد مما يفضح هذه المزاعم هو الشعار الذي رفعه الشعب اللبناني: " كلن يعني كلن"، الذي يشير إلى وعي سياسي حديث، يكثف فهماً جديداً طازجاً ومفاجئاً؛ فهو عدا عن كونه تجاوزاً كبيراً لصيغة النظام الطائفي اللبناني، فإنه أيضاً قد نسف عناوين كبيرة، كانت قد عزفت عليها النخب السياسية والحزبية حتى طلعت ريحتها، وهي التي كانت قد تصدرت معظم برامج الأحزاب السياسية، وانشغلت بها وعليها وفيها أجيال تلو أجيال، بدءاً من كيفية إدارة الصراع العربي الإسرائيلي وصولاً إلى معنى الهوية مروراً بتصنيفات الطبقات ومفهوم المقاومة ومعنى التقدم واليسار واليمين...إلخ.

إذا كان الجوع والتهميش والإذلال هو المفجر الأساس لثورات الشارع العربي، فإن هذا الشارع قد أدرك أنه لا يستطيع إزالة هذه الأسباب إلا بإزالة البنية العميقة المسببة لها، وأن لا جدوى من الحلول الإسعافية التي تلجأ إليها أنظمة النهب والفساد والطغيان التي لم تعد تقنع أحداً، وأن ما من حل إلا عبر بناء المواطن الحر القادر على المشاركة والمحاسبة والاختيار.

قد لا يبدو الواقع الحالي موحياً بتفاؤل إلى هذا الحد، بل قد يوحي بنقيضه تماماً، وقد يكون هذا صحيحاً بمعنى ما، وقد يمكن القبول به فيما لو قرأناه بدلالة اللحظة، لكننا عندما نتبصر في الخطوات التي تخطوها شعوب هذه المنطقة، على الرغم من الصعوبات، وعلى الرغم من الثمن الباهظ، فإننا نستطيع تلمس الإصرار على التقدم في الطريق العسير الطويل الذي لابد سيفضي في نهايته إلى صيغة مختلفة، تختلف تماماً عما ساد طيلة قرون طويلة.

المفارقة الفاجعة في هذا المشهد المذهل، خلافاً لكل

إن ما يبعث على الأمل، وما يبعث على الحلم بفجر جديد، هو الرد الذي يصدح بكل وضوح: "كلن يعني كلن"، ليس للأشخاص فقط، بل ولهذه النخب التي تعفنت

ثورات التاريخ، هي: إن هذه الشعوب- هنا والآن- قد سبقت "نخبها"، وإنها – أي النخب– تبدو عاجزة عن فهم ما يحدث في وعي هذه الشعوب وإرادتها، وإنها تشكل عامل إعاقة، لا عامل استنهاض الفعل والدفع به إلى الأمام.

لذلك، وهنا والآن، في زمن الشعوب الصارخة بقهرها، التي مازالت أنظمة القمع والطغيان تتآمر مع أشباه الأحزاب السياسية، ومع أشباه الساسة والمثقفين، لوأد هذا الحلم الذي يتفتح من قهر هذه الشعوب المقموعة، متذرعة بالفراغ وبضرورة التأني، بفهمها الأزور للتاريخ وللسياسة ولعلم الاجتماع؛ فتطلب من الناس المقهورين أن يلجموا غضبهم.

إن ما يبعث على الأمل، وما يبعث على الحلم بفجر جديد، هو الرد الذي يصدح بكل وضوح: "كلن يعني كلن"، ليس للأشخاص فقط، بل ولهذه النخب التي تعفنت بعيداً عن ربيع فجرته شعوب لم تعد تطيق قهرها.

لم يعد هذا الشعار محض غضب فالت من أشخاص مقهورين، لقد أصبح برنامجاً سياسياً واضح الرؤى، وواضح الأهداف، إنه برنامج كنس مرحلة بكاملها، بكل ما فيها من برامج وبنى وأسماء، فهل يعي من ينبغي له أن يعي: أنهم نخب هذه الحقيقة، فيسارعون إلى فهم المعنى العميق لهذه الصرخة:

كلن يعني كلن.