كرة القدم الرئاسية

2023.08.17 | 06:39 دمشق

كرة القدم الرئاسية
+A
حجم الخط
-A

"إن هزيمة دولة نووية في الحرب التقليدية سيؤدي إلى اندلاع حرب نووية، فالقوى النووية لا تخسر الصراعات الكبرى التي يتوقف عليها مصيرها. يجب أن يكون هذا واضحاً للجميع، حتى لسياسي غربي لديه قليل من الخبرة الاستخباراتية"، كتب ديمتري ميدفيديف قبل فترة. كان الرئيس الروسي السابق، والحليف الرئيسي لبوتين، رأس الحربة والأكثر استخداماً للنبرة العدائية وخاصة للغة التهديد بالحرب النووية طوال فترة الغزو الروسي لأوكرانيا.

في آخر تصريحاته قبل أيام، أكد ميدفيديف الذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، أنه لو نجحت أوكرانيا باقتطاع أراض روسية (يقصد الأراضي الأوكرانية التي احتلتها قوات بلاده، وضمتها لروسيا عام 2014 وخلال العام الماضي) فإنه "علينا استخدام الأسلحة النووية بموجب أحكام المرسوم الرئاسي الروسي. لأنه ببساطة لن يكون هناك حلّ آخر. يجب على أعدائنا الدعاء لمقاتلينا، كي لا يُدخِلوا العالم إلى الجحيم النووي".

مطلع هذا الصيف، أعلن بوتين أنه سلّم أسلحة نووية إلى حليفته بيلاروسيا جارة أوكرانيا. وبحسب وكالة استخبارات الدفاع الأميركية "DIA"، فإنه ليس لديها سبب للشك في صحة تلك المعلومات، ومع ذلك لم ترَ وزارة الخارجية الأميركية، حسب المتحدث باسمها ماثيو ميلر أن هناك ما يستدعي "تعديل وضعنا النووي، فلا مؤشرات بأن روسيا تستعد لاستخدام السلاح النووي". وفقاً لفيدرالية العلماء الأميركيين فإن روسيا تمتلك 4477 رأساً نووياً جاهزاً للعمل أو مُخزّن كاحتياط، بما في ذلك 1900 سلاح نووي تكتيكي، حسب آخر التقديرات.

كثيراً ما تظهر على الصفحات الأولى للصحف الأميركية صور للرؤساء الأميركيين، مع تعليق يشير أنه في الخلفية يظهر المساعد العسكري للرئيس يسير خلفه حاملاً "كرة القدم"

في الثالث من شهر آب/أغسطس عام 1980، ظهرت عناوين رئيسية في الصحف الأميركية الكبرى تتحدث عن وجود تغييرات في الخطط الأميركية للحرب النووية، لتغدو حرباً محدودة وتعطي الأولوية للأهداف العسكرية والقيادية. بدا الحديث حينها وكأنه تقليل من موانع نشوب تلك الحرب، فهي بكل الأحوال سوف تكون محدودة ولن تنهي العالم، كما كانت التصورات على الدوام. سيتساءل جيريمي ستون رئيس اتحاد العلماء الأميركيين بطرافةٍ يومها "ومن سيبقى حيّاً هناك، لإعطاء الأمر بإيقاف الحرب، إذا قصفنا مراكز القيادة السوفييتية بالأسلحة النووية؟".

كثيراً ما تظهر على الصفحات الأولى للصحف الأميركية صور للرؤساء الأميركيين، مع تعليق يشير أنه في الخلفية يظهر المساعد العسكري للرئيس يسير خلفه حاملاً "كرة القدم". سيدرك القراء العارفون على الفور، أنها كرة القدم الأكثر أهمية وغموضاً في العالم. حقيقة الأمر أنها ليست كرة قدم على الإطلاق، وإنما حقيبة سوداء ضخمة يتدلى منها هوائي، وهي حازت هذا اللقب في حقبة جون كينيدي مطلع ستينيات القرن الماضي، ربما لولع عائلته بلعبة كرة القدم الأميركية. اسمها الرسمي "حقيبة الطوارئ الرئاسية" ولها ألقاب أخرى كالحقيبة السوداء مثلاً.

في الثامن عشر من الشهر الماضي تموز/يوليو 2023، نشر أرشيف الأمن القومي الأميركي السري في جامعة جورج واشنطن مجموعة من الوثائق حول كرة القدم النووية تلك. في تقديمه للوثائق سيفيد ويليام بور الباحث في الأرشيف أن "كرة القدم" الخاضعة لحراسة مشددة، بينما تنتقل وتسافر مع الرئيس في كل الأمكنة وفي كافة الأوقات، تحتوي على مجموعة من خطط العمل السريّة، من شأنها أن تمنح الحكومة الفيدرالية سلطات طوارئ واسعة. بعضها مشكوك في شرعيته، بل وغير قانونية، بحسب كبار المسؤولين الحكوميين الذين تم تخليد آرائهم في السجلات التي رُفعت عنها السرية. كما توصف الحقيبة بالنووية لاحتوائها على تجهيزات الاتصال التي تتيح للرئيس اتخاذ القرارات وإيصالها للوحدات العسكرية المختصة، بشأن استخدام الأسلحة النووية في حال حدوث أزمة عسكرية مفاجئة.

تنقل إحدى الوثائق المنشورة حديثاً، تحمل الرقم 2، عن إدوارد ماكديرموت الذي قاد المكتب الفيدرالي لخطط الطوارئ في الستينيات، قوله بأن الغرض من الوثائق التي تحويها الحقيبة هو "تزويد الرئيس بسلطات الطوارئ الرسمية، لتوفير السيطرة على الأفراد لأغراض الأمن الداخلي، والتخلص من المتطلبات الإدارية العادية.. بعض تلك الوثائق مشكوك في شرعيتها". الحكم الأخير على وثائق الحقيبة، والذي سيتكرر في أكثر من سجل، كان بسبب أنها تتيح تعليق العمل بأوامر الإحضار خلال توقيف الأفراد، كما تمكّن الرئيس من إعلان الأحكام العرفية، والإذن بالاعتقالات الجماعية والاحتجاز التعسفي. لكن يبقى أهم ما تحويه كرة القدم "محفظة أوامر التشفير النووي" التي تتيح للرئيس إصدار رسائل التفويض بالقصف النووي، إلى هيئة الأركان المشتركة وكافة القيادات العسكرية الأخرى.

أرجّح أن أغلبنا قرأ كتاباً من الخيال العلمي، أو شاهد فيلماً يروي أحداث يوم القيامة "Doomsday"، المصطلح الذي بات يعني انتهاء الحياة البشرية على كوكبنا بسبب الحرب النووية. ولكن على الأرجح أن أحداً منّا لم يتصور سابقاً أن الأمر قد يحدث فعلاً، حتى في أقصى حالات الجنون البشري، أو اشتغال ما يمكن وصفه بالدافع التدميري الشخصي لدى من يمكن وصفهم بمجرمي الحرب، حين يمتلكون الوسائل لتدمير الحياة البشرية. لكن ما يحدث اليوم عاد ليلقي الرعب في قلوب ملايين البشر الذين يخشون احتمال نشوب حرب نووية، قد تبدأها روسيا، حسب معظم الترجيحات.

على الدوام، ومنذ سبعينيات القرن الماضي، تم تداول معلومات، لا يمكن التثبّت من دقتها، أن لدى السوفييت آلية للرد النووي فيما لو جاءت الضربة الأولى من الولايات المتحدة الأميركية. تطلق الصحافة على تلك الآلية اسم "اليد الميتة"، فهي تُمكِّن من الرد حتى بعد القضاء على القوات المسلحة التقليدية. النظرية تقوم على أن نظام القيادة يقوم بقياس مستوى الإشعاعات وضغط الهواء والحرارة والاضطرابات (الزلزالية) قصيرة المدى. فإذا أشار القياس إلى هجوم نووي، فإن تسلسلاً من العمليات سوف يبدأ تلقائياً ودون تدخل بشري. بدايةً بإطلاق صاروخ موجه برأس حربي لاسلكي، سيجوب الأراضي الروسية ويصدر أوامر الإطلاق إلى جميع الصواريخ الباليستية النووية السوفييتية (الروسية اليوم) العابرة للقارات.

كان هذا جزءاً من عقيدة الحرب الباردة للتدمير المتبادل، ووسيلة لردع الهجمات النووية من خلال ضمان القضاء على الجانب الذي قام بالضربة الأولى، كي لا تكون هناك ميزة للأسبقية. لم يؤكد السوفييت، ولا الروس فيما بعد وجود هذه الآلية. لكن في عام 2011 صرَّح الجنرال سيرجي كاراكاييف العامل في قوات الصواريخ الاستراتيجية الروسية، أن لدى بلاده القدرة على تدمير كامل الولايات المتحدة خلال 30 دقيقة.

الجيش الأميركي لم يقم بإنشاء محرك تلقائي لترسانته وأبقاها في اليد البشرية، ما يعني أخذ كافة الاحتياطات اللازمة التي تضمن أن القادة الذين لديهم السلطة والقدرة على الرد النووي، سوف ينجون حتماً من الضربة الأولى

مع هذا التصريح، ومع أن وسائل الإعلام الروسية تشير على الدوام إلى تحديثات تطرأ على النظام تشمل آليات الإنذار المبكر بواسطة الرادارات وغيرها. إضافة إلى عدم تأكيد هذه المعلومة من مصدر آخر، إلا أن أياً من القادة الروس لم يقم بنفيها. في الولايات المتحدة تم تطوير تقنيات مماثلة لاستشعار أي هجوم نووي، لكن الجيش الأميركي لم يقم بإنشاء محرك تلقائي لترسانته وأبقاها في اليد البشرية، ما يعني أخذ كافة الاحتياطات اللازمة التي تضمن أن القادة الذين لديهم السلطة والقدرة على الرد النووي، سوف ينجون حتماً من الضربة الأولى.

هل ولّدَ لديكم إيرادي للمعلومات السابقة بعض المزاج السيئ، أو شيئاً من المشاعر السلبية؟ أرجو ألا أكون قد فعلت. فأنا ما زلت من أولئك الذين شاهدوا أفلاماً عن "يوم القيامة"، وعن الشتاء النووي المديد الذي ستخلفه هكذا حرب، وعن موت المليارات نتيجة التغير المناخي الذي تسببه سحب الدخان التي ستحجب الشمس لسنوات. أجل شاهدت كل ذلك، ولم أقبل التصديق أنني سأعيشه بنفسي.

شخصياً ما زلت متفائلاً حتى اليوم بأن شيئاً من هذا لن يحدث، رغم ما نشهده اليوم من استسهال واستخفاف روسي للإفصاح عن التهديد بضربات نووية، خصوصاً عبر ميدفيديف لسان حال بوتين. بالنسبة لي ترعبني فكرة أخرى، وهي أنه رغم الكشوفات العلمية الهائلة، التي تبين الحجم المرعب لكونٍ ممتدٍ بلا نهاية، وتُظهر أكثر، مدى تواضع الإنسان في تلك الفسحة، فإن كمية الغطرسة التي تصيب هذا الكائن الصغير، عندما يحوز السلطة والقوة تكاد لا تُصدَّق. وكتجسيد عملي نرى أن السلاح النووي قد وُجد، حتى لو لم يُستخدم، ليجنّب حائزيهِ، ولو كانوا مجانين صغاراً، خسارة أي حرب تقليدية، مهما كانت عدوانية، ولا تمتلك أيّاً من وجوه الحق. ولكن هل للحرب وجه من وجوه الحق؟ نعم للأسف، هي كذلك حتى اليوم في بضع حالات، رغم بشاعتها في كامل حالاتها.