كتابة التقارير بالأموات

2020.01.06 | 16:18 دمشق

pascxktcskqqczjulz1jg9nrdknyhl5vr2n3x0qg.jpeg
+A
حجم الخط
-A

أهل إدلب يقولون عن الرجل الجسور الذي لا يبالي بالمخاطر، ولا يفرق في ساح الوغى بين خصم قوي وخصم ضعيف: فلان ما بيعرفْ عينُه، أو: ما عندُه في الحرب دَقْنْ ممشطة.

هذا الكلام ينطبق بحذافيره على المُخْبِر المقدام أبي فستوك الذي حلفَ رجلٌ من قريته يميناً معظمةً على أنه لو جاء أحدُ والديه أو زوجته أمامه أثناء كتابته التقريرَ لما وَفَّرَه! ونحن الأدباء الذين خاننا الحظ إذ جعلَ أمهاتِنا يلدننا ضمن الحدود الجغرافية لمحافظة إدلب نعرف ذلك، ونؤكد عليه، ونبدي استعدادنا لإثباته بعشرات الأمثلة والقرائن.. ولعل أكثر تقاريره طرافة هو الذي كتبه بحق الأديب الراحل حسيب كيالي.

سأعود معكم، في هذه الحكاية، إلى نقطة الصفر، أو إلى ما يسميه الرفيق المنحبكجي خالد العبود: المربع الأول. ففي سنيّ الأربعينات من القرن العشرين بدأت علائمُ النبوغ الأدبي تظهر على ابْنَي الوجيه الإدلبي أحمد زهدي الكيالي مواهب وحسيب، فكتبا الشعر والقصة القصيرة، بسوية فنية عالية، وحققا تميزاً لافتاً، وشهرةً تجاوزت حدود الوطن السوري. وهذا لم يكن أمراً مألوفاً في تلك الأيام، ولا سيما في إدلب المدينة الزراعية الصغيرة، البعيدة عن مناطق الإبداع الشعري أو القصصي أو الروائي، ولم يكن يصلُها أي نوع من الصحف أو المجلات التي تُعنى بنشر الأخبار أو الإبداع الأدبي، أضف إلى هذا أن القصة القصيرة العربية بحد ذاتها كانت حديثة العهد، ولم يكن ليبدع فيها إلا ذوو المواهب الكبيرة.

لن أحكي مطولاً عن ذينك الأديبين، لأن السيرة الخاصة بكل منهما معروفة، فقد شاركا في تأسيس رابطة الكتاب السوريين (وترأسها مواهب) سنة 1951، وكان لكل منهما قصتان في المجموعة القصصية الأولى التي أصدرتْها الرابطة بعنوان "درب إلى القمة"، وبعد زمن قصير هجر "مواهب" كتابة الشعر والقصة، وتفرغ للعمل الصحفي، وسافر إلى موسكو، وبقي فيها إلى حين وفاته، وأما حسيب فقد ملأ الدنيا وشغل الناس بقصصه، وأشعاره، ومسرحياته، ورواياته، وكتاباته الصحفية الفكاهية، وأحاديثه الإذاعية، ولُقِّبَ "تشيخوف سوريا"، واستمر يكتب ويبدع حتى وافته المنية في مدينة دبي بتاريخ 9 تموز يوليه 1993.

لم يتمكن أبو فستوك من اصطياد أحد الأديبين الكياليين بتقرير، ولا حتى بـ طَقّ برغي، أو بوشاية شفوية لرئيس فرع الأمن العسكري بإدلب، أو لرئيس اتحاد الكتاب العرب الذي كان حسيب يهجوه بشكل دائم.. ولم يكن ذلك الإحجام ناجماً عن عفة، أو رحمة تسكن قلبه، ولكن (المُعَجِّز حاضر)، إذ رحل مواهب قبل القدوم الميمون لأبي فستوك إلى الوسط الثقافي الأدبي في محافظة إدلب بزمن طويل (1977)، وحسيب كان يعيش في دبي منذ 1981، وتزامنت وفاتُه تقريباً مع قدوم أبي فستوك إلى معترك الحياة الثقافية الإدلبية..

لم يتمكن أبو فستوك من اصطياد أحد الأديبين الكياليين بتقرير، ولا حتى بـ طَقّ برغي، أو بوشاية شفوية لرئيس فرع الأمن العسكري بإدلب

ولكن ربك -كما يقولون في الكلام الدارج- لا يخجل عبده، إذ لعبت لأبي فستوك حمامة حينما عرف أن مدير المركز الثقافي بإدلب على وشك أن يسمي واحدة من قاعات المركز باسم حسيب كيالي بناء على اقتراح منا نحن الأدباء الذين نحب حسيباً ونعتز به ونعتبره أستاذاً وقدوةً، فقبَّ، إذ ذاك، وانتفض على نحو مباغت كما لو أنه كمية مبحبحة من النشادر نزلت على المنطقة الحساسة في استه! وصار يركض على قولة المثل (من بيت اشْقَاعْ لبيت ارقاعْ لبيت كَتَّرَ الله أفْضَالْكُمْ)، يحكي، ويبربر، ويشوبر، ويصرخ، محتجاً على تمجيد حسيب كيالي المعادي صراحة للقائد الخالد حافظ الأسد، بدليل أنه غادر سوريا في أوج التآمر عليها وحصارها في مطلع الثمانينات، وبقي يعيش بعيداً عن تراب الوطن (الطاهر) حتى مات، ولم يوصِ بأن يدفن جثمانه في سورية الأسد، بل إنه فعل العكس.

أنا غير متابع لحركة التقارير الأمنية التي اخترعها حزب البعث العربي الاشتراكي في الستينات، وجرى تطويرها وإيصالها إلى القمة في عهد الديكتاتور حافظ الأسد ووريثه القاصر، ولكنني أعتقد أن أبا فستوك كان الرائد الأول لكتابة التقارير بحق الأموات! ولم يكتفِ بكتابة تقرير (من قفا يده)، وإيداعه لدى فرع الأمن العسكري كما جرت العادة، بل انطلق يتابع الحالة ميدانياً، ليحول دون إتمام الأمر، ولو على جثته.. فوضع في المسألة (كل ثقله)، مستنداً إلى الفكرة الرئيسية الخطيرة، وهي عداء حسيب كيالي لنظام حافظ الأسد.. وهي، بالمناسبة، فكرة صحيحة، وأنا كنت على صداقة قوية بحسيب، وكان يحكي لي، عبر الرسائل، عن سر خلافه مع نظام الأسد، وهو أن أذرعَ النظام الإعلامية، بمجرد ما بدأت أزمة النظام مع الإخوان، حاصرته، ولأنهم يعرفون أنه كاتب ذو مقروئية عالية، استبسلوا في سبيل إرغامه على تمجيد حافظ الأسد، فلم يفعل، وبدأ التضييق عليه، فقرر أن يغادر سورية إلى غير رجعة.. وقد فعل.

في اليوم الخامس من شهر تموز يوليه 1993، أيقن الأطباء في أحد مشافي مدينة ميونيخ الألمانية أن السرطان منتشر في جسد حسيب، ولم يعد لديهم ما يقدمونه له من الناحية الطبية، فقرروا تخريجه، ووقتها أيقن حسيب أنه ميت، فطلب من مرافقه أن يعيده إلى دبي، فذهب برفقته إلى المطار، ولدى وصول المرافق إلى كوة حجز التذاكر قال له موظف المطار بالإنكليزية إنه لا توجد رحلة مباشرة إلى دبي، ويمكنهما أن يذهبا ترانزيت مع وقفة قصيرة في مطار دمشق.. فصاح حسيب تلقائياً: لا. لا أذهب إلى دمشق!

(هذا مع أن حسيب كيالي من أكثر محبي دمشق وسوريا).

(للحديث صلة)