قِبلَةُ النازحين وشريان الحياة.. حلب

2019.11.18 | 16:31 دمشق

حلب
+A
حجم الخط
-A

في اجتماع أواسط عام 2012 للثوار الناشطين في العمل الإغاثي في مدينة حلب، طرح أحدهم فكرة استئجار أبنية سكنية كاملة "على العظم" وتجهيزها كمساكن مؤقتة للنازحين..

كان تعليق أحد أعضاء تنسيقية "فلوَرز": " ما عاد تنفع الحلول الإسعافية.. وصار لازم حل جذري.."

بعدها بشهر تقريباً دخل الجيش الحر إلى المدينة بقيادة لواء التوحيد.

مع تزايد ظاهرة الانشقاق عن جيش الأسد في النصف الثاني من عام 2011، بعد زجِّ النظام له في مواجهة مفتوحة مع السوريين المطالبين بحريتهم، تشَكّلتْ أولى مجموعات الجيش السوري الحر لحماية المتظاهرين من بطش شبيحة النظام وجيشه في عدد من المناطق الثائرة، ليحوِّل الأسد حلّه الأمني والعسكري إلى سياسة قتل جماعي تحت شعار سيَرَى السوريون صِدقَه لأعوام لاحقة.

"الأسد.. أو نحرق البلد".. بهذه البساطة اختزل النظام استراتيجيته في مواجهة الثورة السورية، فأُطبِقَ الحصار على درعا واجتاحت آلاف المجنزرات محافظتي دير الزور وحماة، وجَالَت القطعات العسكرية إدلب وقَصفَتْ البوارج البحرية حيّ الرمل الجنوبي في اللاذقية، أما حمص فقد تحوّلَتْ أحياؤها وأريافها إلى حقلِ رميٍ تدريبيّ للمدافع والطائرات الأسدية.

وفي الوقت الذي شهدت فيه تلك المحافظات بواكير المواجهات المسلحة، كان ثوار مدينة حلب يخوضون معركة من نوع آخر!

بدأ العام الدراسي 2011-2012 في جامعة حلب، والذي كان يعني عادةً انتعاشاً في سوق المدينة العقاري، فالعديد من الطلبة من خارج المدينة -الذين تسمح ميزانية أهاليهم- كانوا يستأجرون شققاً سكنية في أحيائها، إلا أنّ حلب هذه المرة لم تستقبل الطلبة فقط، فقد توافدَ إليها عشرات ألوف النازحين من المحافظات السورية التي تجتاحها عصابات الأسد، وبشكل خاص نازحو محافظتي حمص وحماة، وهو ما سبب أزمةَ سكنٍ كانَ مِن المفترض أن يَحدَّ من آثارها عددُ الطوابق المخالفة التي كانت تظهر في المدينة يومياً، بعد غضِّ البلدية في حلب النظر عن المخالفات ضمن استراتيجية قيادتها الأمنية لصرف أهاليها عن الالتحاق بركب الثورة، إلا أن جشع عدد -ليس بالقليل- من ملاك العقارات السكنية ضاعفَ أسعار كِرائِها، تاركاً ذكرى سيئة عند كثير من السوريين الذين قدموا إليها نازحين!

فمنزلي الذي كنت أستأجره في العام السابق مع زملاء لي في حي "المرديان" ب 16 ألف ليرة شهرياً (340$)، وَجَدَتْ عائلة كبيرة من حماة نفسها مُجبَرَةً على استئجاره ب60 ألف ليرة (1275$)، بينما اضطرَّتْ عائلة أخرى من مدينة القصير إلى استئجار منزل في حي "المارتيني" بـ 45 ألف ليرة (950$)، وهذان يُعتبَران من الأحياء مرتفعة الآجار نسبياً، إلا أن تضاعف الأسعار كان سِمَةً لم تغادر أيَّاً من أحياء حلب إلا ما ندر.

لكن.. ورغم السهولة التي تُنتِجها نظرةُ تصنيفٍ أحاديّة كهذه إلا أن حلب لم تكن فقط "مُلّاكاً جشعين"!

كانت تنسيقيات المدينة الثورية قد تلقّت نهاية شهر رمضان/آب من عام 2011 ضربة موجعة باعتقال عدد كبير من كوادرها، دافعةً عدداً آخر إلى التقليل من النشاط المباشر في الحراك الثوري، والتحول إلى أنشطة أخرى مرحلِياً كان "العمل الإغاثي" أكبَر المستفيدين منها، فقد أصبح لكل تنسيقية نشاط إغاثي في تأمين المنازل مجاناً للنازحين، إضافة إلى ظهور "السّلل الإغاثية" لأول مرة في المدينة، وكل ذلك بتمويلٍ أهلي من تجار المدينة وتنسيقيات المغتربين من أبنائها وأبناء المحافظات السورية النازحة فيها.

اقرأ أيضاً..  تكتيكات أمنية من ثورة حلب السلمية

لم تكن الجهات الثورية فقط من عمل على الملف الإغاثي في حلب، فالمدينة ذات الطابع المحافظ والتي لعب مشايخها دوراً سلبياً في انخراطها بالحراك الثوري، كانت تنظُرُ لمساعدة النازحين كواجب ديني، فضلاً عن وجود نشاط مدني سابق في المدينة لم يقتصر على العوائل المحافظة أو حتى المسلمة، لتنشط عشرات الفرق والجمعيات الإغاثية "المحايدة" في تلبية الحاجة المتزايدة للنازحين، والتي وجد فيها كثير من الشباب فرصة "آمنة" للقيام بواجبهم الوطني أو الإنساني بعيداً عن الموقف الثوري أو ضدّه، خصوصاً مع الضوء الأخضر من قيادة المدينة الأمنية للعمل في المجال الإغاثي سواءً بتراخيص رسمية أو "أمنية"، والتي كانت تَنظُر إلى النشاطات المشابهة كطريقة لاستنزاف المدينة، إضافة إلى استثمار مخبريها في تلك الفرق لاصطياد أصحاب النفس الثوري من الناشطين والمطلوبين من النازحين، فأصبح النشاط الإغاثي في المدينة مُنقَسِماً بين عمل إغاثيّ مرتبط بشكل أو بآخر بالمنظومة الأمنية في المدينة، وآخر يعمل في الخفاء بعيداً عن أعين المخابرات والجهات الرسمية تحت إشراف النشطاء الثوريين.

كانت تنسيقيات الثوار تَجهَد للحفاظ على العوائل المرتبطة بأفراد ثوريين من الريف أو المناطق النازحة

مع دخول عام 2012 وتحول المواجهات المسلحة في عدد من المناطق الثائرة إلى معارك تحرر كان الريف الحلبي أحد مواقعها، تزايدت أعداد النازحين في المدينة بشكل كبير، وتزايد معها اعتماد النظام الأمني على المؤسسات الإغاثية لتوفير المعلومات التي تساعدها في التضييق على الناشطين والقبض على الثوار، وهو ما حوّل ساحة العمل الإغاثي -المنقسمة أساساً- في المدينة إلى حالة حرب باردة، فكانت تنسيقيات الثوار تَجهَد للحفاظ على العوائل المرتبطة بأفراد ثوريين من الريف أو المناطق النازحة بعيداً عن مساعدات الجمعيات الإغاثية "المشبوهة" المرتبطة بالأمن، ليُبادر الناشطون إلى التطوّع في الجمعيات المسجلة أو المرخصة أمنياً كغطاء للنشاط الإغاثي الثوري، وبات ضرورةً الاستعانة بأحد هؤلاء أثناء نقل سيارة موادّ إغاثية داخل المدينة للاستفادة من أوراق عمله "باسم الجمعية المرخصة" لتوزيع حصص إغاثية على نازحين بعيداً عن أعين الأمن، أو لتجميع شحنة مواد طبية وغذائية في مستودع ما قبل نقلها إلى المناطق المتضررة في الأرياف والمحافظات الأخرى، والتي كان يتسلّمها هناك غالباً أفراد تنسيقية ثورية للإشراف على توزيعها.

لعب طلاب جامعة حلب من أبناء المحافظات الأخرى في المدينة الدور الأكبر في الشحنات الإغاثية التي تغادر المدينة إلى المناطق الأخرى، فكانوا يُشرِفون على تجميعها مُحَوّلين منازلهم إلى مستودعات حقيقية لتجميع المواد الغذائية والطبية وغيرها بانتظار نقلها..

فكان منزل فراس حنوش (طالب طب من أبناء محافظة الرقة) في حي المريديان مستودعاً طبياً متكاملاً، يتم فيه تجميع ما يُوفِّره طلاب الكلية والأطباء الثوار قبل نقله إلى الريف أو المحافظات الأخرى، أما المنزل الذي انتقلت إليه في حي المارتيني -ضيفاً- على طلاب من "طيبة الإمام" في حماة.. يوسف وأبو عروة ورامي، فكان نقطة تجميع ضخمة للمواد الإغاثية والطبية التي تنتقل بشكل دوري منه إلى محافظتهم كشريان حياة يشرف عليه شقيقُ يوسف "حمزة المكسور" ذو ال25 ربيعاً، والذي كان سائقاً على أحد "الباصات" في شركة نقل كان يملكها والدهما.

وحمزة ليس كأيّ أحد يمكن أن تقابله!

فرغم حداثة سنه إلا أنه تمكن بفضل قدرته العالية على بناء علاقات شخصية مباشرة من ترتيبِ طريق آمن للمساعدات عبر عشرات الحواجز الأمنية والعسكرية من حلب إلى حماة، ناهيك عن دوره في انشقاق عشرات الجنود عن جيش الأسد وإيصالهم إلى مأمنهم، قبل أن يُعتقَل على أحد الحواجز نفسها أواسط آب عام 2012 ليقضي شهيداً تحت التعذيب في أفرع نظام الأسد الأمنية بعدها بعامين تقريباً.

استمرت مدينة حلب قِبلَةً لمئات آلاف النازحين السوريين، ونقطة انطلاق للمساعدات الإغاثية للمناطق السورية المتضررة منذ أواسط عام 2011 وحتى تحرير قسمها الشرقي بأيدي الجيش الحر في رمضان -أواخر تموز- من عام 2012، ليدمّرها النظام فوق رؤوس ساكنيها، محوّلاً المدينة بعدها إلى مصدر أكبر عدد من النازحين وإلى الوجهة الأولى للمساعدات الإغاثية.

لكن تلك قصة أخرى..