قراءتان هولنديتان في: "فلسطين حرة من النهر إلى البحر"!

2023.12.09 | 06:02 دمشق

قراءتان هولنديتان في: "فلسطين حرة من النهر إلى البحر"!
+A
حجم الخط
-A

أعادتْ الحرب الإسرائيلية على غزة، الناجمة كسبب مباشر عن عملية طوفان الأقصى، تذكير العالم بالقضية الفلسطينية عامة، وبعث الحياة في أفكار وتفاصيل كثيرة لازمت القضية أحدها: فلسطين حرة من النهر إلى البحر!

قد يسأل سائل: وهل يستحق تذكير العالم بالقضية الفلسطينية هذه الآلاف من الضحايا! 

في الإجابة يمكن القول: إن الإجابة عند إسرائيل والمجتمع الدولي الفاعل (أميركا وأوروبا) الذي يشارك في عملية القتل والتدمير العمراني والاجتماعي والحياتي بشكل مباشر أو غير مباشر.

وفي الإجابة كذلك: لا تحسب قضايا النضال والقضايا الوطنية بصيغة تجار "الشنطة"، بل هي سياق تاريخي، فيه فعل ورد فعل، وظلم وحصار وتجويع، وتضحية وإيمان، وعالم لا يبالي بمصير شعب بقيت قضيته وحقوقه معلقة عشرات السنوات.

الأمر أبعد، في هذه اللحظة، كما يرى متابعون كثيرون، من "حماس "ودعم إيران لها، والشماتة التي يبديها البعض بما يدعى بمحور المقاومة الذي ارتكبتْ أطراف منه أبشع الجرائم بحق السوريين مثلاً.

الأمر يتعلق أولاً وأخيراً بقضية شعب لا يلتفت أحد إلى حقوقه فيما قطار التطبيع يمر ويكافأ المحتل الذي يرفض الحلول التي تدعو إلى خيار حل الدولتيْن، أو حتى أن يكون المواطنون الفلسطينيون مواطنين بحقوق كاملة في إسرائيل كما ترى بعض السيناريوهات، وتغيب الحلول السلمية عن الخطاب الإسرائيلي، تحضر فقط لغة التدمير، فتتساءل: هل هذا خطاب دولة عضو في الأمم المتحدة؟

دفع أصحاب ذلك الموقف الأخلاقي الإنساني ثمن رفعه في العالم الغربي، منهم من أنهي عقد عمله، ومنهم من فقد تجارته ومنهم من حمِّل باتهامات عدة

من ضمن الشعارات التي أحيتها الأحداث الجارية في غزة والعدوان الإسرائيلي عليها لكن بحمولات جديدة ودلالات إنسانية وأخلاقية، وليس بصفته شعاراً للاستهلاك أو شحن العامة أو المتاجرة بالقضية الفلسطينية كما تفعل إيران وبعض الأنظمة العربية، شعار (فلسطين حرة من النهر إلى البحر) إذ دفع أصحاب ذلك الموقف الأخلاقي الإنساني ثمن رفعه في العالم الغربي، منهم من أنهي عقد عمله، ومنهم من فقد تجارته ومنهم من حمِّل باتهامات عدة.

في هولندا وكجزء من الحراك العالمي الدائر حول تلك الأحداث هناك جانب قانوني صادر عن محكمة هولندية رأى أن الشعار لا يثير مشاعر إنكار حق إسرائيل في الوجود حالياً، وأنه من حق المتظاهرين رفعه، لكن المحكمة يمكن أن تغير رأيها أو يتقدم مدع جديد بطلب إلى محكمة أخرى ويتغير القرار.

في البرلمان الهولندي ثمة جانب آخر للموضوع، حيث أدى استعمال حزب "دينك" الذي يغلب عليه الطابع الإسلامي ومشاركة المنحدرين من جنسيات أخرى فيه، للشعار عبر ما قاله النائب "ستيفان فان بارلي" تحت قبة البرلمان قبل أسابيع إلى اعتراض رئيسة البرلمان متمنية ألا يعاد استعماله هناك، بل دفع ذلك إلى الدعوة إلى حظر استعماله. وقد صفقت النائبة عن حزب بيج 1 للشعار مرحبة به، تحت قبة البرلمان. فيما احتج نواب آخرون رأوا أن في استعمال الشعار مبالغة ومحاولة تحقيق مكاسب انتخابية من قبل حزب "دينك" الذي وضح أنه يقصد باستعمال الشعار أنه من حق الفلسطينيين العيش في مساواة وحرية، دون ضم بلادهم بشكل غير قانوني، عبر نظام فصل عنصري! وقد كان الحدث الغزاوي أحد أبرز الأحداث التي اشتغلت عليها الحملات الانتخابية للبرلمان الذي يبدو أنه لن ينجح في تمرير حكومة يمينية لا يزالون يختلفون على تفاصيل تفاصيلها.

عدد من المقالات الصحفية والتحقيقات والتقارير نشرت عن الشعار وفحواه في الأيام الأخيرة، تحاول شرح سياقاته التاريخية والمقصود به وتغير دلالاته.

لكن السؤال المهم الآن: لماذا تم إحياؤه الآن؟ وهو الذي يعاكس إرادات الدول، هل هناك أصوات من خلال الإعلام بات لها حضور ورؤيا مختلفة؟ أم أنه خيار عالمَيْ "زد وإكس"؟

حيث قدمت الحكومة الهولندية، التي لم تكترث بذلك الشعار، مساعدات ومعدات ومليارات لإسرائيل في هذه الحرب كما معظم الدول الأوروبية، إن علناً أو سراً.

 فيما لا تزال، على الجانب الآخر، الحكومة الهولندية المستقيلة، تناقش فكرة استقبال مئة طفل فلسطيني لمدة سنة! لذلك يحتج متابعون بالقول: بتنا نحلم بأن نرفع شعارات ونتظاهر بحُرية فقط في أوروبا وأميركا فيما تذهب الملايين والأسلحة إلى إسرائيل!

تشكل إعادة إحياء الشعار (فلسطين حرة من النهر إلى البحر) هولندياً صرخة كبيرة من جهة من يؤمن بحق المظلومين في التعبير عن أنفسهم، ويدرك أولئك الصارخون أن الواقع لم يعد يسمح بهذا الحلم في الحق، وأن هناك اتفاقيات فلسطينية إسرائيلية وإقليمية ودولية تمنع ذلك، فيهرب كثيرون نحو تفسير للشعار يتمثل في أنه حق للشعب الفلسطيني في العيش مثلما هو حق للإسرائيليين!

كيف تستعيد هذه القضية حضورها ثانية كلما ظنت إسرائيل والمجتمع الدولي أنها صارت نسياً منسياً، وكيف يمكن أن تغيب الحقوق التاريخية للشعوب؟ وهل سينجم عن تلك الحرب فكرة إنضاج حل سياسي؟

فما يقف آخرون أوروبياً، محتجين ومستغربين، ليقولوا: هل يعقل من يوجد من يعيش بيننا ويؤمن بذلك الشعار؟ ويأخذون أقصى حد في تفسيره، في بواكير تشكله الأولى، حيث يقولون كان يعني: إلغاء وجود إسرائيل والدعوة إلى إزالتها وإعادة اليهود إلى بلدانهم الأم!

نحسب أن كلا التفسيرين لم يعد الواقع يسمح به، ولو أعيدت كل الحقوق التاريخية إلى أهلها لأعيد تشكيل العالم بصورة جديدة وهو ما لم يعد ممكناً من كل النواحي!

لكن من المهم كذلك القول: إن على العالم أن يساعد في إنتاج حل سياسي، وألا يبقى ملايين الفلسطينيين بلا حقوق أو وثائق أو أساسيات الحياة، وما القوة المتوحشة المستعملة من الطرف القوي عسكرياً ومناصرة المجتمع الدولي الفاعل له وتشجيعه، إلا نوع من الهروب من الحل النهائي بحجج واهية.

الجانب القانوني في هولندا حول الشعار يختلف عن النقاشات الاجتماعية، حيث يرى كثيرون أن إسرائيل لها كل الحق فيما تقوم به نظراً لشيطنة حماس إعلامياً والتوقيت الصعب الذي اختارته ووجود عدد من المدنيين في عملية طوفان الأقصى، والإخراج الغربي لما حدث، ومحاولة إظهار أن معركة إسرائيل هذه على الشعب الفلسطيني ما هي إلا جزء من محاربة التطرف الإسلامي الذي يهدد حياة البشر الطبيعيين، بل هو دفاع عن قيم العالم الغربي، خاصة أنه في هذه المرحلة هو القطب الفاعل الرئيس في معظم القضايا العالمية، لذلك يسوغ السرديات التي يريد كما رأينا في خطابات بايدن مثلاً بغض النظر عن صحتها أم لا!

الشخصية الهولندية، حتى إن مالت إلى هذه الجهة أو تلك، غالباً ما تترك الباب مفتوحاً للنقاش والحوار، محاولة منها للوفاء لتاريخها، حيث إنها تؤمن إبان عملها تاريخياً بدفن أجزاء من بحر الشمال لبناء البيوت عليه أن شخصاً واحداً لا يمكنه أن يعمل وحده، وأنه إبان مواسم فيضانات البحر نحو اليابسة حيث تقع معظم الأراضي الهولندية تحت مستوى سطح البحر، لا بد من تعاون الجميع لأن مياه البحر إن طافت ستغمر الجيمع. وهذا نمط حياة يسمى حياة التعاونيات الفلاحية وهو يسيطر على معظم نمط الحياة الهولندي، وسياسياً تقتضي الحياة الهولندية عدم انتصار حزب في قيادة البلاد لأن النظام الانتخابي يمنعه من ذلك مهما كان له مناصرون!

من أجل ذلك فإن الحوار مع الهولنديين المناصرين لإسرائيل غالباً ما يكون مجدياً، نظراً لطبيعة الشخصية خاصة إن كان بين يديك أدلة على ما تذهب إليه في النقاش والحوار، وغالباً ما يتفهم من تحاوره ويعود إلى رشده الإنساني إن رأى الصور وإحصاءات الضحايا!

لكن الأمر لا يعني أنه لا يوجد الكثير من المتعصبين، وأولئك لا حل لهم إلا بإشهار صوتك واختلافك في وجههم، ويلحظ أنه أولاً بأول بدأت تعود لغة العقل إلى النقاشات، بل هناك أصوات ترى أن الكثير من المستوطنين الإسرائيليين خطر وجودي على الجميع وهم لا يختلفون عن المتطرفين من الحركات الجهادية الإسلامية، كما يقال في عدد من النقاشات الحِجاجية!

شعار فلسطين حرة من النهر (نهر الأردن) إلى البحر (الأبيض المتوسط) دعوة إلى تحقيق العدالة وإلى اجتراح الحلول بدلاً من كون الحرب هي المخرج الوحيد. وهناك كثيرون يرون أن استعمال مصطلح "فلسطين حرة" كما قالت رئيس بلدية امستردام يكفي لأن استعمال "من النهر إلى البحر" قد يثير مشكلة أخرى، وهو السؤال ذاته الذي بقي دون إجابة عشرات السنوات: لماذا ساعد الغرب في إطار محاولته التكفير عن ذنوبه الهلوكوستية تجاه اليهود ببناء دولة يقوم جوهرها على الاحتلال واغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني وقضم أراضيه؟

الشعار في وجه من وجوه استعماله عربياً صرخة في وجه المطبعين بلا ثمن: يا أخي طبعوا لكن كونوا براغماتيين، إنْ سلمنا أن قضايا الشعوب يمكن أن يمر من أراضيها قطار البراغماتية!

نابذو الغرب يردّون: من قام بالهولكوست، ها هو يسمح بعد عشرات السنين بهلوكوست جديد يتم بثه عبر شاشات الموبايل لحظة بلحظة!

الشعار في وجه من وجوه استعماله عربياً صرخة في وجه المطبعين بلا ثمن: يا أخي طبعوا لكن كونوا براغماتيين، إنْ سلمنا أن قضايا الشعوب يمكن أن يمر من أراضيها قطار البراغماتية!

والشعار يشير كذلك إلى أن هناك ظلماً ومظلومين، وأن هناك من يناصرهم ويعيد التذكير بحقوقهم، حتى لو بكلمته وصوته، وارتدائه للشماغ الفلسطيني كحالة رمزية تعبر عن الإيمان بحق المظلوم.

أما أنصار "التسكيت" بحجة الإنسانية تجاه اليهود فلا نعرف كيف يستقيم لهم ذلك؟ أم أن الأمر أمر تسويق جيد وآخر رديء، وفق حاجات السوق السياسي وسوق الضحايا العالمي!

أنْ تسكتَ عمَّا تؤمن به له ثمن، وأنْ تجهر برأيك؛ له ثمن كذلك. اختر أيّ الثمنين أقرب إليك، وتذكر أن العمر ماض، فقل كلمتك ولا تمض! يردّد مواطن هولندي من جذور سورية، بعد نقاش طويل مع جارته الهولندية!