قراءة في الموقف الأميركي من عملية "نبع السلام"

2019.10.18 | 17:34 دمشق

20191017_2_38806862_48582528.jpg
+A
حجم الخط
-A

بدا الموقف الأميركي من عملية "نبع السلام" متخبطاً أو حتى متناقضاً، مع عدم الانخراط في العملية أو تأييدها، لكن في نفس الوقت عدم معارضتها جدياً أو وضع العصي في دواليبها. وبدت بعض المواقف الصادرة عن البيت الأبيض عادية، وحتى ديماغوجية لا تعترض على جوهر التحرك مع وضع شروط ومحددات، هي أصلاً محل اتفاق ثنائي تركي- أمريكي وكانت حاضرة طوال الوقت في السياسات التركية تجاه سوريا والمنطقة بشكل عام..

رفضت الولايات المتحدة طوال السنوات الماضية فكرة المنطقة الآمنة، لأن إدارة باراك أوباما السابقة كانت بوارد الانكفاء ولم ترد الانخراط في القضية السورية، ولأنها لم تمانع ترك سوريا وحتى العراق لإيران، من أجل الاتفاق النووي مع التزام طهران بالمحددات الأمريكية الثلاثة المعروفة، المتمثلة بعدم كسر حدود سايكس بيكو، وعدم تهديد حرية الملاحة أو أمن إسرائيل.

غير أنه أي أوباما اضطر للانخراط بعد ذلك والوقوع في فخ تنظيم داعش الذي نصبه النظام وإيران وحلفاؤهما، لكن حصل ذلك وفق نفس القناعات الخاصة بعدم الممانعة فى ترك سوريا والعراق لإيران، والاعتماد على حلفائهم أو أدواتهم فى مواجهة التنظيم، مع تجاهل تركيا ومصالحها وحتى استعدادها لاستخدام جيشها الجرار ضده، لكن وفق ثوابتها ومصالحها ، كجارة لسوريا ودولة مركزية في المنطقة، وليس ثوابت ومصالح أمريكا التي تتصرف دوماً بذهنية الغزاة والمستعمرين، هذه الذهنية تحديداً كانت بمثابة الأرضية لتفاهمها السري والمعلن مع إيران في المنطقة وعليها.

قصة اعتماد واشنطن على مقاتلى بي كي كي السوري بدت لافتة جدا، كونها تعرف أنهم إرهابيون ومجرد ذراع للتنظيم التركي

قصة اعتماد واشنطن على مقاتلى بي كي كي السوري بدت لافتة جدا، كونها تعرف أنهم إرهابيون ومجرد ذراع للتنظيم التركي الذي تعتبره هي نفسها إرهابيا. لذلك تم تغيير الاسم إلى قسد - رغم أنهم غير سوريين وغير ديموقراطيين - وقتال داعش تم ضمن شروط عدم قتال النظام وتجاهل السياسات والممارسات الانفصالية حتى الإرهابية لمقاتلي بي كي كي أمام أعين الجنود الأمريكان، بينما تم فرض الشروط على الثوار السوريين وربط تسليحهم بالانصياع  للأوامر والشروط الأمريكية.

 إذن واشنطن أرادت بى كي كي أداة رخيصة، لقتال داعش دون قتال الأسد، أو الاصطدام مع حلفائه كما لإبقاء خيار التقسيم سيفاً مسلطاً فوق رقاب السوريين والأتراك. والأهم ربما استخدامه كسلطة لحدية لحراسة سوريا المفيدة. فعلاً شرق الفرات ومنطقتها الجنوبية تحديداً، حيث النفط والغاز والقمح، بينما اهتمت إيران فقط ببقاء النظام وتكريس امبراطوريتها الوهمية التى  كانت سوريا المفيدة مجرد مسألة دعائية وديماغوجية لها.

غير أن هذه السياسة الأمريكية الباردة واللئيمة والتماهي مع إرهابيين، واقتسام النفوذ مع الغزاة إيران وروسيا، لم تمنع تركيا من فرض الوقائع على الأرض عبر تنفيذ عملية "درع الفرات"-2016- التي تقبلتها واشنطن على مضض، لعدم القدرة على الاعتراض تجاه انخراط تركيا في الحرب ضد تنظيم داعش، على حدودها، ثم استمر فرض الوقائع من قبل تركيا، وفرض نفسها لاعباً مركزياً عبر عملية "غصن الزيتون"-2018- التى لم تعترض عليها واشنطن علناً، أيضاً بحجة أنها خارج دائرة عملياتها وحضورها في شرق الفرات.

تركيا بدأت في تهيئة الظروف لنبع السلام بمجرد الانتهاء من عملية "غصن الزيتون" ثم الانتهاء من الحزمة الانتخابية الداخلية المتلاحقة، عبر وضع ملف المنطقة الآمنة والعملية العسكرية شرق الفرات على نار حامية وفرضها بقوة على أجندة العلاقات مع واشنطن، وتفضيل العمل الثنائي المشترك كحلفاء، دون إزاحة العمل الأحادي عن جدول الأعمال، في يناير الماضى أعلن الرئيس ترمب قبوله بفكرة المنطقة الآمنة وتحدث شخصياً عن 20 ميلا-32 كم- كعمق لها ، ثم بدأت حوارات مطوّلة بين الخبراء المهنيين من الجانبين حول التفاصيل، انتهت بالتوصل-أغسطس الماضي - إلى اتفاق لتأسيس غرفة عمليات مشتركة من أجل التنسيق حول إقامة المنطقة الآمنة وإدارته.

الرئيس أردوغان أصرّ على التنفيذ دون مماطلة، كما حصل من واشنطن في منبج التى وعدت إدارة أوباما السابقة بانسحاب بى كا كا منها، وهو نفس ما فعلته الإدارة الحالية عند التوصل إلى خريطة طريق محددة لذلك فى نيسان العام الماضي، ثم تفاهم مباشرة مع ترمب - اتصال الأحد13 أكتوبر الشهير والتاريخي - على تنفيذ تركي أحادي للمنطقة الآمنة شرق الفرات، وفق محددات وليست شروطا تم التوافق عليها، تتضمن بأن تكون على عمق 32 كم على طول الحدود التركية السورية، والأهم عدم استهداف المدنيين أو تهجيرهم، أوتدمير مدنهم وقراهم، وتولي مسؤولية معتقلي داعش من المقاتلين وأسرهم مع التصدى لأي نشاط جديد محتمل له فى المنطقة.

هذه أصلاً محددات أو ثوابت للسياسة التركية، كانت حاضرة في نموذج "درع الفرات" و"غصن الزيتون" بعيداً عن نموذج الرقة وعين العرب، والموصل الأمريكي، فلا أرض محروقة فى النموذج التركي، ولا تدمير للمدن، ولا تشريد لأهلها مع استعداد دائم للتصدي لتنظيم داعش، ضمن القناعات المعروفة بعدم استخدام إرهابيين في مواجهته، وعدم استفادة النظام كذلك من الحرب ضده.

 من هنا أيد ترمب مبدئياً عملية نبع السلام، أعطى ضوءا أخضر أو برتقاليا، عبر سحب جنوده من  منطقة شمال سوريا المتاخمة لتركيا، لكن أمام التشنج في الكونغرس والساحة السياسية والإعلامية، هدد أنقرة بعقوبات في حال تجاوزها للتفاهمات والمحددات، ووقّع فعلاً على عقوبات لا تبدو قوية أو جدية، مع تهديد بوقف حوارات الحزمة الاقتصادية لمضاعفة التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار سنوياً، التي تمثل أصلاً مصلحة وفائدة مشتركة للطرفين.

رد فعل الكونغرس بدا صاخباً ومفاجئاً، خاصة من جهة حزب الرئيس، علماً أن رد فعل الحزب الديمقراطي يمكن فهمه أو وضعه في سياقات حزبية سياسية واضحة. تشمل معارضة الرئيس، النيل من فكرة الانسحاب  من سوريا التي تنال تأييدا شعبيا والقول إنها تتم بشكل خاطىء، والدفاع عن الأسس التي وضعها الرئيس الديمقراطي السابق أوباما، ثم تغليف ذلك بإطار أخلاقي مزور وخاطىء، عبر زعم التخلي عن الأكراد وتركهم تحت رحمة الجيش التركي.

عموماً أظهر التصميم التركي على تنفيذ عملية نبع السلام، عمق الازدواجية والنفاق في الموقف الأمريكي، من جهة الإدارة والكونغرس

جارى الحزب الجمهوري من جهته منافسه الديمقراطي، برفض العملية مع تشجيع ترمب لفرض عقوبات على تركيا ما يمكن اعتباره محض نفاق وازدواجية. كون الحزب وعلى لسان كبار نوابه – الراحل جون ماكين والحالي ليندسى جراهام- وصف دوماً سياسة أوباما بالمشينة، وأنها قوت الأسد وحلفاءه روسيا وإيران على حساب الشعب السورى الثائر، وللعلم فقد كان بي كا كا السوري عنصر مركزي في سياسة أوباما المشينة المرفوضة جمهورياً، بينما كانت تركيا ضدها منذ البداية سياسياً وأخلاقياً.

 أكثر من ذلك وفي نهاية أيلول الماضي فقط التقى السيناتور غراهام نفسه مع الرئيس أردوغان فى نيويورك ، ثم تحدث هاتفياً  أثناء اللقاء مع  الرئيس ترمب لإشراكه فى الحوار، بعدما  كان عرض الحزمة الاقتصادية لتطوير العلاقات بين البلدين، ممتدحاً فى السياق سياسة تركيا الإقليمية، ومؤكداً على أنها حليف مهم يريد ترسيخ البعد الاستراتيجي في التحالف معه بسوريا والمنطقة على حد سواء.

عموماً أظهر التصميم التركي على تنفيذ عملية نبع السلام، عمق الازدواجية والنفاق فى الموقف الأمريكي، من جهة الإدارة والكونغرس على حد سواء، والاتفاق الذى تم التوصل إليه الخميس يثبت صحة موقف أنقرة، التى سعت منذ البداية لتحقيق المنطقة الآمنة بشكل ثنائي، وإبعاد الإرهابيين عن الحدود بعمق معقول، غير أن المماطلة من جهة واشنطن دفعتها للعمل الأحادي، ثم إجبار حليفتها على الانصياع لتفاهم كان بالمتناول أصلاً، ومطروحاً على أجندة الحوار بين الجانبين طوال الوقت.

كلمات مفتاحية