قصّة الشيخ جراح تختصر القضية الفلسطينية

2021.05.11 | 06:57 دمشق

thumbs_b_c_8b425da7cd6896ed0f2b328bc9bb14d1.jpg
+A
حجم الخط
-A

تختصر قصة حي الشيخ جراح في القدس المحتلة القضية الفلسطينية بكل أبعادها وجوانبها التاريخية الفكرية السياسية والواقعية، حيث بشاعة وهمجية الاستعمار الإسرائيلي وعناد وصمود وثبات الشعب الفلسطيني الهائل وذاكرته العصية على النسيان وإرادته العصية على الكسر والانحناء.

يقع حي الشيخ جراح في القدس القديمة، ويطل على المسجد الأقصى والحرم المقدسي مباشرة، ويمثل منذ عقود مع أحياء سلوان ووادي الجوز ومحيط الحرم أهدافاً استراتيجية للاحتلال الإسرائيلي والجمعيات الاستيطانية المتطرفة التي لم تعد هامشية أو منبوذة، وإنما تموضعت مع الوقت في صلب الطبقة السياسية الحاكمة التي تزداد تطرفاً يوماً بعد يوم.

إذاً، وضع حي الشيخ جرّاح على بؤرة استهداف الاحتلال بأذرعه وأدواته المختلفة بشكل مكثف في الفترة الأخيرة. أما البيوت محل الاستهداف الآن فيبلغ عددها 28 ويقطنها 500 مواطن فلسطيني بما فيهم أطفال ونساء وشيوخ، علماً أنها بنيت في منتصف خمسينيات القرن الماضي باتفاق بين الحكومة الأردنية - الحاكمة للضفة الغربية آنذاك - ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا، واستند الاتفاق أساساً إلى قاعدة تمليك البيوت للعائلات مقابل التنازل عن بطاقة لاجئ وتقديمات ومساعدات وكالات الأونروا.

بدأ المستوطنون باكراً جداً ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي في تزوير أوراق لإثبات ملكيتهم المزعومة لأراضي وممتلكات الحي والمدينة قبل العام 1948

وللأسف طوال عشرة أعوام تقريباً لم يتم توثيق العقود بشكل رسمي أو الانتهاء من الإجراءات البيروقراطية لإنجاز العملية بالشكل القانوني السليم إلى أن وقعت النكبة الثانية -حزيران/ يونيو 1967- التي احتلت إسرائيل خلالها كامل أراضي فلسطين التاريخية بما فيها القدس طبعاً، وبدأ المستوطنون باكراً جداً ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي في تزوير أوراق لإثبات ملكيتهم المزعومة لأراضي وممتلكات الحي والمدينة قبل العام 1948، وقاموا بالتشكيك بالتالي في ملكية الأهالي لبيوتهم في غياب وثائق أردنية رسمية تثبت ذلك.

بعد ذلك انطلقت الهجمة الاستيطانية الشرسة ضد الحي ومحيط الحرم بشكل عام على عدة مستويات تحديداً القضائي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي أي مع نهاية الانتفاضة الثانية وبداية حقبة اتفاق أوسلو المشؤوم الذي أوجد بيئة سياسية وأمنية مؤاتية لإسرائيل سمحت لها بمضاعفة الاستيطان ثلاث مرات على الأقل في عهده غير الميمون.

مع الوقت تصاعدت الهجمة ضد حي الشيخ جراح بالتوازي مع سطوة وهيمنة اليمين المتطرف التامة على الحياة السياسية في إسرائيل خلال العقود الثلاث الأخيرة، وبلغت الذروة في السنوات القليلة الماضية وتحديداً منذ اعتراف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وسعي هذه الأخيرة لترجمة ذلك عبر فرض الحقائق والوقائع على الأرض بما فيها التهجير والتهويد في الشيخ جراح ومحيط الحرم القدسي الشريف.

يقود المتطرفون من جماعتي لاهافا وعطيريت كوهنيم الهجمة الميدانية في الشيخ جراح بمساعدة المؤسسات الإسرائيلية السياسية والأمنية بعدما باتوا في متن الطبقة السياسية ولم يعودوا هامشيين أو منبوذين.

جماعة لاهافا متماهية تماماً مع تيار الصهيونية الدينية الكاهاني العنصري الفاشي الذي قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتبييضه في الانتخابات الأخيرة، علماً أن قادته مسؤولين مباشرة عن التصعيد الأخير في الشيخ جراح، بل حاول أحد رموزه إيتمار بن غفير نقل مكتبه البرلماني إلى الحي قبل أن يقوم المقدسيون بطرده.

في الشهور الماضية بدت قضية البيوت المستهدفة في الحي وكأنها وصلت إلى نهاية مسارها القانوني أو للدقة السياسي والقانوني بأحكام شبه نهائية بمصادرة عدة بيوت من الحي ضمن مخطط للاستيلاء عليه بشكل تام.

هنا لا بد من التأكيد على حقيقة مهمة مفادها أن إسرائيل لا تملك الشرعية لا هي ولا محاكمها للحسم في ملكية البيوت أو حسم مصير الحي وسكانه والقدس عموماً كون المدينة محتلة تخضع لاتفاقية جنيف الرابعة لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية القانونية ذات صلة.

اشتدت الممارسات الاحتلالية الاستيطانية بالتزامن مع شهر رمضان وتركزت في باب العامود أولاً مع بدء الشهر الكريم حيث قام الاحتلال بإغلاق ساحاته لمنع المقدسيين من إقامة الصلوات والشعائر والاحتفالات الرمضانية، ثم انتقلت الأحداث بعد ذلك إلى الشيخ جراح بالتزامن مع موعد إخلاء البيوت مطلع أيار/ مايو الجاري ومنه إلى جاره الحرم الشريف، علماً أن هبّة الأقصى الأخيرة ارتبطت مباشرة بالاعتصامات والفعاليات المتضامنة مع أهل الشيخ جراح.

طوال الشهور والسنوات بل والعقود الماضية واجه المقدسيون وحدهم الهجمة، بل الهجمات الإسرائيلية ضدهم وعلى كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية بقيادة ميدانية محلية من رجال دين وموظفي الأوقاف والمرابطين ووجهاء المدينة.

تلقى المقدسيون المساعدة دائماً من إخواننا وأهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948 وعلى كل المستويات، أيضاً. وهنا لا بد من تذكر شيخ الأقصى رائد صلاح الذي يتم التنكيل به قضائياً وشيطنته سياسياً وإعلانياً لدفاعه عن المسجد الأقصى ودعمه للمقدسيين في مواجهة حملات المصادرة والتهويد والاستيطان للمدينة، بينما كان موقف قيادة السلطة خجولاً ومتواضعاً في أحسن الأحوال، وعملياً تركت المقدسيين لمصيرهم ولم تتحرك جدياً إلا في الأيام الأخيرة أي في الدقيقة التسعين من المعركة السياسية والإعلامية والقضائية والميدانية لأهالي الشيخ جراح دفاعاً عن بيوتهم وممتلكاتهم.

ورغم المواقف الجيدة والسقف السياسي المرتفع، إلا أن سلطة غزة تبدو عاجزة فعلياً عن نجدة المقدسيين، حيث لا إمكانية فعلية لخوض معركة استنزاف طويلة المدى بالصواريخ أو حرب تقليدية أو شبه تقليدية مع الاحتلال.

وجّهت هبة الشيخ جراح صفعة للمطبّعين الذين زعموا أن هرولتهم للعلاقات مع الاحتلال أتت بحجة حماية الفلسطينيين

شهدنا في قصة الشيخ جراح - كما القضية الفلسطينية - تلكؤ وتأخّر أردني – وعربي - في دعم أهالي الحي بالوثائق اللازمة أو تقديمها منقوصة وغير مستوفية الأركان.

في السياق، وجّهت هبة الشيخ جراح صفعة للمطبّعين الذين زعموا أن هرولتهم للعلاقات مع الاحتلال أتت بحجة حماية الفلسطينيين ومنع خطة الضمّ الإسرائيلية المستمرة في الحي والقدس والضفة الغربية بشكل عام ولكن بشكل غير رسمي أو مُعلن.

كما وجّهت من جهة أخرى صفعة للمتنطعين من أذرع إيران الطائفية الموتورة المتشدقين بدعمهم للشعب الفلسطيني رغم أنهم لا يردّوا فعلياً على الهجمات والضربات الإسرائيلية المتلاحقة ضدهم للاحتفاظ بسيطرتهم واحتلالهم للمدن والأراضي العربية في سوريا والعراق ولبنان.

عموماً أتى التراجع القضائي الإسرائيلي الأخير- أول أمس الأحد - أمام أهالي الحي نتيجة ضغوط ورسائل سياسية رسمية من الحكومة إلى المحكمة العليا، كما ترجمة للواقع الميداني الذي فرض فيه المقدسيون إرادتهم.

يجب الانتباه كذلك إلى أن الانتصارات الأخيرة في باب العامود والشيخ جراح والحرم القدسي هي تكتيكية ومرحلية ولكنها بالتأكيد مهمة ومبشّرة جداً على المستوى الاستراتيجي.

في كل الأحوال اختصرت هبّة وقصة الشيخ جراح القضية الفلسطينية، حيث الاستعمار الصهيوني المنتهك كل الأعراف والمواثيق الدولية والصمود الأسطوري الهائل للشعب الفلسطيني وبؤس القيادة، بل القيادات الفلسطينية وعجزها حتى عن التوحد وإنهاء الانقسام ونجدة المقدسيين على كل المستويات ضمن برنامج وطني يلحظ إدارة واعية ومصممة للصراع، كما التخاذل بل التواطؤ العربي والنفاق والانحياز الدولي للجلاد على حساب الضحية. ومع ذلك وفي النهاية ستفرض الإرادة نفسها في الميدان حيث الانتصار حتمي للشعب الفلسطيني "إن شاء الله" كما الهزيمة وتفككك واندثار المشروع الاستعماري الصهيوني.