icon
التغطية الحية

قراءة في العلاقة بين الصين والغرب.. هل نحن على أعتاب حرب باردة جديدة؟

2024.06.10 | 18:35 دمشق

الرئيسان الأميركي والصيني - المصدر: الإنترنت
الرئيسان الأميركي والصيني - المصدر: الإنترنت
Foreign Policy- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

بدأت ذكريات الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي تتلاشى، إذ يستبعد كثيرون فكرة قيام حرب باردة جديدة مع الصين أو أي توقعات تشير إلى العودة إلى عالم يلوح فيه خطر الإبادة النووية الوشيكة، ويعتقد بعض المنتقدين لهذه الفكرة بأن الجهود الساعية لتخفيض كم البضائع الاستراتيجية القادمة من خلال التجارة مع الصين ما هي إلا محض شطط.

ثمة حقيقة مؤلمة وهي أن كثيرين يفضلون ألا يلحق بالصين أي عواقب بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان أو بسبب استفزازاتها على المستوى الجيوسياسي، مخافة أن يعطل أي رد عليها العلاقات التجارية المتكاملة معها بما أنها أصبحت "ورشة" العالم.

بل حتى العالم الإسلامي الذي توحد ضد سلمان رشدي وتشارلي إيبدو والآن ضد إسرائيل، اختار أن يلتزم الصمت تجاه الصين، ولا تظنن عزيزي القارئ بأننا نحن في الغرب محصنون ضد الضغط نفسه الداعي لاسترضاء الصين.

وإن كان البديل عن أي حرب باردة جديدة هو حرب ساخنة، فلا بد أن يفضل الجميع الأولى على الثانية، ولهذا علينا أن نواجه هذا الانقسام، لأن تجنب الحرب يعني تبني الوقائع التي تدفعنا للتفكير بما يلزم لمحاربة طموحات الصين.

من الطبيعي بالنسبة لبكين وواشنطن أن تتنافسا، على الأقل في الأسواق العالمية، وهذه المنافسة قد تكون بناءة وهدامة، كما أن المنافسة على المستويين التقني والاقتصادي قد تفيد الجميع، إذ كان سباق الفضاء مثلاً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي نعمة في مجال العلوم والتقانة، أما الحرب فهي على العكس، لأنها ستجعل الجميع أفقر وستحرمهم من الأمان على مستوى أكبر.

لا شراكة بل منافسة

عندما تتلاقى قوة صاعدة بقوة متقهقرة، يصبح العنف احتمالاً ممكناً في كل الأوقات، أما التسليم بشكل ودي، مثل نقل سلطة السيطرة بين الإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة فيعتبر حالة نادرة. وخلال أيام "العز" في التسعينيات بل حتى الألفينات، كان بوسع صعود الصين أن يحولها إلى شريكة للولايات المتحدة، لا إلى خصم لها.

وتحدث مؤرخون بارزون من أمثال نيل فيرغسون عن المجموعة الثنائية المكونة من الصين والولايات المتحدة كما أطلقوا مصطلح "الصيميركا"، والمقصود بذلك التوءمان اللذان كان بوسعهما التشارك في قيادة العالم، وقد اعتنق بعض المفكرين في الصين تلك الفكرة.

بيد أن هذا العالم انتهى في عام 2012، عندما أوصل الحزب الشيوعي الصيني شي جين بينغ للسلطة، وهو رجل عنصري ينتمي لشعب الهان ويحمل إيماناً لا يتزعزع بأن قدر الصين هو أن تصبح أقوى دولة على وجه الأرض، وأن تتحول إلى نار متقدة تنتقم من الغرب وتقف ضده. تشرب شي أكثر من أي زعيم صيني ظهر مؤخراً الدروس التي قدمتها مدارس الصين عن "قرن المذلة" أي تلك الفترة ما بين حرب الأفيون الأولى ووصول الحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة عندما وضعت القوى الغربية حذاءها العسكري فوق رقبة الصين على حد تعبير الكتب المدرسية في بلده.

واليوم، يمكن أن تقوم حرب أخرى حامية الوطيس، بيد أن البديل الأفضل عنها هو قيام حرب باردة.

عند ترقية شي لمنصب الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، اختارت بكين طريق المنافسة الجيوسياسية الذي لا يرحم أحداً. وبخلاف بعض أسلافه، لم يشهد شي الصعود الحتمي للقوة الصينية ضمن النظام الليبرالي المبني على العولمة بشكل محتم بوصف ذلك الأمر كافياً لتعزيز "المكانة الصحيحة" للصين. ثم إن الرؤساء الأميركيين جورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وجورج بوش الابن، كلهم تنبؤوا وتنازلوا من أجل مستقبل تصبح فيه الصين القلب النابض للاقتصاد العالمي القائم على العولمة، ولكن الولايات المتحدة بقيت تفرض القوة الصلبة في هذا النظام العالمي، ولهذا يعتبر شي هذا الإجراء بمثابة فرض قيود غير منطقية على القوة الصينية وإمكاناتها.

أي بمعنى أصح، يمكن القول بأن شي لم ير في النظام العالمي الذي أسسته الولايات المتحدة وفرضته على الجميع طريقاً للنجاح الحتمي لبلده، كما ظن أسلافه، بل رأى في ذلك قيداً لا مناص من التمرد عليه، ولهذا يتمنى أن يتحدى القوة الأميركية على المستوى العالمي بالطريقة ذاتها، وقد فعل ذلك في أوكرانيا، عندما رفض إدانة الغزو الروسي بل ودعم قاعدة عسكرية روسية لتصنيع السلاح. كما أيد شي التحديث العسكري الإيراني، في وقت تحولت الصين إلى زبون أساسي يشتري النفط من تلك الدولة، ولهذا غض الطرف عن تأثير طهران في زعزعة الاستقرار بشكل كبير في الشرق الأوسط من خلال وكلائها، وبات على استعداد للتضحية بمصالح مشتركة يأتي على رأسها طرق الشحن القريبة من المتمردين الحوثيين، وذلك ليحافظ على شراكة عميقة مع إيران في وجه الولايات المتحدة.

عالم متعدد الأقطاب

لكنه لم يمارس ذلك دفعة واحدة على الدوام بكل تأكيد، لأن الصين ماتزال تأمل بالاستفادة من التجارة التي سمحت لها بأن تعيد بناء نفسها من جديد، ولكن مع كل حالة تقيد فيها قواعد النظام الدولي الحالي ومؤسساته نزوات الحزب الشيوعي الصيني ومخططاته، لابد من الوقوف ضد تلك القواعد والمؤسسات لضمان تحقيق الحلم الصيني الذي يتحدث شي عنه.

يقوم النظام الدولي الحالي على قيم وقواعد تعارض دوافع الحزب الشيوعي الصيني وطريقته في العمل، بالإضافة إلى معارضتها لدوافع وطريقة عمل أنظمة تمتد على مساحات شاسعة في شرقي الكرة الأرضية وجنوبها. أما النفاق الغربي فقد جعل كل تلك القيم والقواعد عرضة لهجوم الخطاب الصيني بشكل مخيف، مهما بلغ نفاق ذلك الخطاب. فالدعم الأميركي لإسرائيل في خضم حرب كارثية لا يعرف كل طرف كيف يديرها قد أضعف موقف هذه الدولة على المستوى العالمي، ولهذا فإن دول العالم الثالث وعلى رأسها الهند وباكستان وإندونيسيا والتي يتمتع كل منها بتاريخ طويل من التعاون مع النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، قد ألفت نفسها اليوم تشجع إما بصورة ضمنية أو علنية عالماً متعدد الأقطاب يمكن للصين فيه ضبط التصرفات الغربية، وهذا ما ظهر بكل وضوح في عمليات التصويت الأخيرة التي جرت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. أما القوة الصينية الناعمة فقد حققت نتائج أبرزها الاتفاق السعودي الإيراني على إعادة العلاقات الدبلوماسية والذي توسطت بكين من أجله وبقيت بعيدة لترد عن نفسها أي احتجاج يتصل بانتهاكاتها الوحشية لحقوق الإنسان.

إن الرؤية العالمية التي تهيمن على الحزب الشيوعي الصيني اليوم تلتزم بفكرة المواجهة مع الغرب مع تخريب وتدمير نظام الحكم الدولي والهيمنة عليه بما أن الغرب هو من أسسه عقب الحرب العالمية الثانية، ثم عاد لتأسيسه بنهاية الحرب الباردة.

قد يعترف القادة الغربيون بهذه الحقيقة فيردون على تلك الانتقادات التي تطول النظام العالمي وقيمه بما يناسبها، ولكن في حال قرروا عدم الرد، لأي سبب كان، فإن ذلك لن يكون تجنباً حميداً للنزاع، بل هو استرضاء لنظام مستبد وخطير لا بد أن يستشعر الضعف لدى غيره ولهذا سيطلب المزيد، بيد أن تعاظم قوة الصين وعدم احتوائها يزيد من خطر نشوب حرب ساخنة بالمقابل.

تواجه الصين نفسها تحديات داخلية حادة بما يكفي لتبرير اتخاذ موقف أقسى، سواء على المستوى الأخلاقي أو الاستراتيجي، وذلك لأن حملات التطهير التي جرت مؤخراً على المكتب السياسي، والانكماش الاقتصادي، وأزمات الائتمان، والتضييق على المشاريع التجارية وهروب رؤوس الأموال، جعلا من الصين عرضة للعقوبات. لذا ولأول مرة منذ أمد بعيد، أصبح شي بحاجة للولايات المتحدة حتى يتجاوز بعض الملفات الشائكة المهمة، وأهمها تلك التي تتعلق بحظر تقني طال أشباه الموصلات، وكذلك لتساعده على تغيير التوجه السائد الذي دفع الشركات الأميركية لسحب استثماراتها من الصين، وذلك لأن الغرب يتمتع بسلطة تعينه على فرض تنازلات على غيره، إلى جانب قدرته على ترك التقانة العسكرية الصينية متعثرة.

الدروس المستفادة من الحرب الباردة الأولى

إن أي حرب باردة جديدة مع الصين قد تبقي النزاع والمنافسة محصورين ضمن معايير محددة، كما ستحد من احتمال توسع النزاع وتحوله إلى نزاع حقيقي. ولكن ثمة دروس مهمة يمكننا أن نتعلمها من الحرب الباردة التي قامت ضد الاتحاد السوفييتي.

الدرس الأول: لا يجوز الحديث عن الحرب الباردة بوصفها حرباً ساخنة جرت أحداثها بكل دقة، لأن الاعتراف بموقف بكين العدائي والرد عليها بما يتناسب مع ذلك لا يشبه في شيء سماحنا لأنفسنا بأن نلتزم أيديولوجياً بتصعيد حالة العداء ضد الصين فقط لأنها الصين. وكما بينت لنا الحرب الباردة، فإن حالة التصدي والمواجهة العامة مايزال بوسعها أن تشمل حالات للتعاون، وتمثل ذلك بتعاون الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي في لقاح شلل الأطفال، أو في التعاون اليوم مع الصين في ملف التغير المناخي والجائحات التي تظهر في العالم، لأن هذا لا يتطلب إذعاناً لانتهاك الصين عموماً لحقوق الإنسان العالمية، أو تهجمها على النظام الدولي، بل إنه يمثل حالة فصل دقيقة بين كلا الأمرين حتى يقوم كل منهما بخلق مساحته الخاصة.

وكما تجلى من خلال التجربة في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، أصبح التعاون ممكناً بين الولايات المتحدة والصين، ولهذا علينا أن نترك الباب مفتوحاً للإدارة الصينية التي ستأتي مستقبلاً حتى تختار علاقة حميدة بنسبة أكبر وأشد تعاوناً مع الغرب ونظامه الدولي القائم على قواعد محددة، بما أنه لا أحد يرجح لذلك أن يحدث في ظل حكم الرئيس شي، لكن يجب على الغرب أن يواصل تلميحاته وإشاراته التي تفضي إلى إمكانية حدوث ذلك، طالما بقيت الصين على تراجعها عن سلوكها الحالي.

ثم إن الصين ليست الاتحاد السوفييتي، أي أنها لن تعاني على المستوى الاقتصادي بسبب حرب فاشلة أو بسبب سباق التسلح، كما حدث للاتحاد السوفييتي، كما أن الحلول التي نفعت مع موسكو قد لا تنفع مع الصين، لأنه بوسع الصين أن تقرأ كتب التاريخ هي أيضاً.

لكننا إن سلمنا بأننا نخوض نزاعاً طويل الأمد، فثمة مطلب إلزامي وحيد، ألا وهو عدم الاعتماد على الصين للتزود بالمؤونة الاستراتيجية، لأن الصين تبذل أقصى ما بوسعها لتستقل استراتيجياً عن التقانة الأميركية، لاسيما على المستوى العسكري. وبالمثل، يجب على الغرب أن يطور استقلاليته الاستراتيجية بعيداً عن التقانة الصينية، وسلاسل القيمة الصينية، بل والصناعة الصينية، وذلك لأن النفوذ غير المتكافئ على الاقتصادات الغربية وعلى الإمكانات الدفاعية لابد أن يتسبب بوقوع كارثة، ولقد نجح التوازن المستقر للردع في درء الكارثة خلال فترة المواجهة مع الاتحاد السوفييتي، وبوسعه أن ينجح مع الصين أيضاً.

إن رسم طريق للخروج من النزاع يعني رسم خطوط حمراء واضحة لما يعتبر مقبولاً وغير مقبول في خضم هذه المنافسة الجديدة، إلى جانب تحديد الأمور التي يمكن أن تفضي في نهاية الأمر إلى قيام نزاع. أما الغموض فلابد أن يفضي إلى التصعيد، والتصعيد سرعان ما يغدو خارج السيطرة، ومبدأ عدم التدخل في الدول الديمقراطية سيحول الصين إلى شريك عالمي مقبول وسيتيح للولايات المتحدة التعايش معها على الرغم من وجود عدد كبير من الأعمال العدائية على المستوى البيني بين الدولتين. ثم إن الأعمال العدائية الأخيرة التي تجلت في مجال الاقتصاد والحرب السيبرانية، وخاصة بوجود أهداف شملت لجنة الانتخابات البريطانية والمنشآت العسكرية الأميركية، تحمل بين طياتها خطر التصعيد على المدى البعيد. ولكن الغرب أعلن بأنه غير مستعد للتصعيد بالنسبة لتلك الجرائم، مكتفياً بإدانتها، ولعل هذا أفضل ما يمكن فعله.

حالة الغموض الاستراتيجي

تجلت أوضح حالة لنجاح الغموض الاستراتيجي حتى الآن في الموقف الأميركي إزاء تايوان، إذ في تلك الحالة، بوسع هذه السياسة أن تظل قائمة حتى لا تشجع الشعب التايواني على ما يضره أو تثير حالة قلق وبلبلة كان الأولى تجنبها. ولكن في بقية الحالات الأخرى، في حال خشيت الولايات المتحدة من تحركات الصين، عندئذ يتوجب عليها أن تعلن عن مخاوفها بشكل صريح وأن تعلن مسبقاً عن الثمن الذي ستفرضه مقابل أي تجاوز لهذا الخط، وكما كانت القواعد الواضحة للاشتباك مفيدة في حالة إدارة النزاع أيام الحرب الباردة، كذلك فإنها ستفيد في أي حرب باردة أخرى.

لابد لهذه التوقعات أن تقلق الغربيين، لكنها يجب أن تشحذ أفكارنا وعضلاتنا معا، في حين أنه لا فائدة ترجى من عملية الاسترضاء، ثم إنها ليست بخيار أخلاقي، ولهذا علينا أن نصفي أذهاننا لنركز على أي تصرف مطلوب لتجنب أي تصعيد غير ضروري يمكن أن يؤدي لمواجهة عسكرية مباشرة، أو ربما لنشوب حرب ساخنة.

كانت فترة الحرب الباردة مرعبة، لكنها أديرت بطريقة أفضل مما نتخيل، لأن الجميع تفادى الحرب، ولهذا لم تقم أي حرب ساخنة، وكذلك اليوم لا يجوز أن تقوم حرب من هذا النوع، ثم إن الصين لا تمول الحروب الساخنة بالوكالة كما فعل الاتحاد السوفييتي خلال فترة الحرب الباردة، وعلى النقيض من الطموحات الاستعمارية الإيرانية في الشرق الأوسط أو الحرب العقائدية التي شنها الاتحاد السوفييتي، تبدو الأهداف الصينية أكثر أنانية، لكنها ليست أقل صدقاً من أهداف إيران أو الاتحاد السوفييتي سابقاً، ومن خلال هذا الباب على الأقل، قد تصبح "عقلية الحرب الباردة" ضمن الحكومات وبين أوساط العلماء وداخل الجيوش، ما نحتاج إليه بالضبط لتجنب عملية الاسترضاء الغرائزية أو بديلها المضاعف الأسود، ألا وهو التصعيد بلا ضوابط، ولهذا علينا أن نستعد لتوصيف هذه الحرب الباردة الجديدة بدقة وأن نتصرف تبعاً لذلك.  

المصدر: Foreign Policy