في تحولات الهوية

2022.09.13 | 07:13 دمشق

في تحولات الهوية
+A
حجم الخط
-A

تشيع في وسائل التواصل الاجتماعي ظاهرة، يمكن أن نطلق عليها ظاهرة الصور المقارنة بين أزمنة سابقة والزمن الحالي، وغالبا ما يركز ناشرو هذه الصور على المفارقة بين مجتمعاتنا في النصف الأول من القرن المنصرم، ومجتمعاتنا في الوقت الحالي.  ويخلص ناشرو أمثال هذه الصور، ولا سيما ما يتصل منها بلباس النساء، إلى أننا اليوم أكثر محافظة وتقليدية، أو لنقل بحسب تعبيراتهم إننا "أكثر تخلفا من أسلافنا"، لتبدأ بعد ذلك  حفلة طويلة لجلد الذات، وهي ظاهرة تكاد تكون علامة مسجلة خاصة بنا، يتكرر فيها بكاء النخبة الليبرالية على الزمن الجميل الذي استمر في بلادنا حتى الستينيات، وتشمل حفلة جلد الذات هجاء لواقعنا اليوم، وتحميل مجتمعاتنا المحافظة وزر انتكاساتنا  وهزائمنا، دون أن يوسع أصحاب هذا التوجه درجة الرؤية قليلا للاطلاع على التحولات التي أصابت العالم كله، ولاسيما بعض الدول المحيطة بنا، حين انتقلت تلك الدول من مواقع العلمانية والليبرالية إلى مواقع أكثر محافظة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.

في الشهر الماضي مرت الذكرى الخامسة والسبعون لاستقلال كل من الهند وباكستان عن بريطانيا، والذكرى المئة لعيد النصر في تركيا. وهي مناسبات تدفع المرء إلى النظر في التغيرات التي طرأت على تلك البلدان منذ الحدثين التاريخين المشار إليهما، ولاسيما ما يتصل منها بالهوية.  

الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الهندي عكس بوضوح تحولات الهوية في الهند، فعادة ما يتجنب القادة الهنود في هذه المناسبة الدخول في السجالات السياسية مع الخصوم، وبدلا من ذلك يتكلم رؤساء الوزراء على المحطات التاريخية التي أدت إلى ولادة الهند المعاصرة، متجنبين الإشارة إلى الانقسامات التي كانت وراء انفصال القارة الهندية إلى دولتين، مع الإشادة في الوقت نفسه بالنهج الذي اتبعته الهند والقائم على استيعاب الجميع تحت سقف هند واحدة لكل أبنائها، وأهمية التسامح والتضامن، إضافة إلى التذكير بأهمية شخصية غاندي في سياسة اللاعنف التي كانت حركة مفصلية في تاريخ الثورات.

الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الهندي هذا العام جاء مؤكدا حجم التغيرات التي أصابت الهوية الهندية في العقود الأخيرة. فمع أن غاندي كما جرى العرف المتبع استأثر بنصيب من حديث رئيس الوزراء، إلا أن الأخير أشاد أيضا بأولئك الذين انتهجوا سياسة العنف ضد المستعمر البريطاني، وهو أمر قلما يحظى باهتمام الأدبيات السياسية في الهند، لأن هؤلاء كان ينظر إليهم على أنهم خرجوا على المسار الذي سلكه غاندي وزملاؤه، وهي إشادة تدفع إلى الخلف السردية التقليدية عن الدور الأساسي لغاندي في تحقيق استقلال الهند، في مقابل الاحتفاء بمجموعات ساهمت أصلا بتفاقم حدة الانقسام الطائفي في البلاد، وأدت في النهاية إلى تقسيم شطري القارة الهندية.

هذا التغير في الهوية نحو اليمين المحافظ لم يقتصر على الهند وحدها، فجارتها اللدود باكستان شهدت مثل هذا التحول

المؤشر الآخر هو تجنب الحديث عن التسامح الديني والعلمانية، والكلام بدلا من ذلك على إعادة تعريف الهندي ليشمل أتباع الديانة الهندوسية، مع إشارات متكررة إلى الآلهة في الديانة الهندوسية، بحيث كان خطابه محملا بالرموز الدينية، وهو تحول يأتي قطيعة مع الأدبيات السياسية التقليدية التي ركزت على أن الهنود متساوون في الحقوق والواجبات.

هذا التغير في الهوية نحو اليمين المحافظ لم يقتصر على الهند وحدها، فجارتها اللدود باكستان شهدت مثل هذا التحول. الهوية الباكستانية تغيرت على مدى العقود السبعة منذ الاستقلال. كانت الرؤية المؤسسة لباكستان أن تصبح بلدا علمانيا ديمقراطيا نخبويا يجد فيه المسلمون الذين يشكلون ربع سكان القارة الهندية ملاذا آمنا، يمارسون فيه شعائرهم الدينية بحرية بعيدا من هيمنة الأغلبية الهندوسية. واستنادا إلى هذا التصور، انصب اهتمام المؤسس الأول على بناء نظام تعليمي علماني يحسن من الظروف الاجتماعية والاقتصادية لمسلمي باكستان، ولهذا دافع عن المساواة بين الجنسين، ووقف مع حق المرأة في خلع الحجاب، وحاول طمأنة الأقليات الدينية لا عبر منحها مقاعد في أول حكومة بعد الاستقلال، وإنما من خلال إرساء حضورها في الرموز الوطنية كالعلم الذي أضيف إليه اللون الأبيض رمزا للأقليات الدينية. لم يتحقق شيء من هذه الرؤية المتفائلة والمغرقة في ليبراليتها على الرغم من مرور ثلاثة أرباع قرن على نشوء باكستان، فالقوانين التي سنت في العقود الأخيرة حولت باكستان إلى دولة أكثر محافظة وتقليدية، في تراجع واضح عن الخط الذي انتهجه المؤسس الأول محمد علي جناح.

هذا الارتداد عن المسار المنفتح على الغرب، والانتقال نحو المحافظة على الصعيدين السياسي والاجتماعي، نعاينه اليوم في تركيا، أقرب الدول جغرافيا إلينا، وأكثر الدول التي اختلطنا بها في العشرية الماضية.  تبنت تركيا العلمانية في دستورها، وأنجزت قطيعة مع تاريخها الإسلامي -العثماني عبر تجريم لبس الحجاب والطربوش، والتحول من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، ومنع الأذان باللغة العربية، وفعلت هذا عبر تأسيس سردية هوياتية جديدة تقوم على القومية التركية، ومركزية أتاتورك في بناء الدولة. 

قال الرئيس التركي: إن تاريخ تركيا لا يبدأ عام 1923م، كما تصر على ذلك السردية السابقة، فتاريخنا (يقصد الترك) له بدايات كثيرة

تكاد تركيا، اليوم، أن تكون نسخة مختلفة عن النسخة التي حلم بها الأب المؤسس أتاتورك. ففي يوم عيد النصر، توجه الرئيس التركي بخطاب يعكس حجم التغيرات التي أصابت الذات التركية في العقود الماضية، قال الرئيس التركي: إن تاريخ تركيا لا يبدأ عام 1923م، كما تصر على ذلك السردية السابقة، فتاريخنا (يقصد الترك) له بدايات كثيرة، فيوم الهجرة هو بداية لنا، وملاذكرد بداية لنا، وفتح القسطنطينية بداية. هكذا انتهت أو ذبلت السردية السابقة لصالح سردية جديدة آخذة في التشكل، سردية تأتي انسجاما مع التحولات التي أصابت المجتمع التركي نفسه، وهذه التغيرات التي اعترت المجتمع هي التي جاءت بحزب العدالة إلى سدة الحكم لا العكس كما يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى.

أظن أن على ليبرالينا الكف عن جلد ذواتنا والتوقف عن الحسرة على الزمن الجميل الذي أضعناه وراء ظهورنا، فلسنا الوحيدين الذين أعادوا تعريف هوياتهم استنادا إلى مقاييس أكثر انغلاقا وأقل قبولا بالاختلاف والرأي الآخر، فالعزاء أن كل جيراننا في هذا الشرق البائس، هنودا وباكستانيين وتركا، فعلوا الشيء نفسه.