في بعض أسباب الحرب الروسية على أوكرانيا

2022.03.12 | 05:14 دمشق

20220308_2_52516374_74447997.jpg
+A
حجم الخط
-A

بدا من المفاجئ لمعظم القادة الأوروبيين هذه الحرب التي شنّها الرئيس الروسي على أوكرانيا، فعلى سبيل المثال كانت صدمةُ قادةِ ألمانيا وسياسييها كبيرة جداً، فلم يكن أحدٌ منهم يتوقّع أن تنزلق الأمور إلى هذا الحد من التصعيد. فألمانيا التي كانت السبب في حربين عالميتين، والتي ابتعدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عن الانخراط في سباق التسلّح، والتي تربطها بالاتحاد الروسي علاقات اقتصادية كبيرة ومتشعّبة - ليس أقلّها أنّ المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر يرأس حالياً شركتي روس نفت ونورد ستريم 2 – أخذ برلمانها يوم الأحد بتاريخ 27/2/2022 في جلسة استثنائية قرارين هامين، أولهما إقرار مبلغ مئة مليار يورو لتسليح الجيش الألماني من موازنة 2022 ووضع خططٍ لرفع الميزانية المعتمدة للدفاع، وثانيهما البدء بإنشاء محطتين في مدينة هامبورغ الساحلية لاستقبال الغاز المُسال بهدف الخروج من العباءة الروسية.

لو استعرض المرء مجمل الخطوات التي أقدمت عليها دول أوروبا المنضوية في الاتحاد وغير المنضوية أيضاً، وحتى الحيادية منها مثل السويد والنرويج وفنلندا، سواء لناحية إغلاق المجال الجوي لهذه الدول أمام الطيران الروسي، أو تجميد الأصول الروسية، أو سحب الاستثمارات الأوروبية من روسيا، أو إخراج بعض بنوكها من نظام سويفت للعلاقات المصرفية، وصولاً إلى إرسال الأسلحة النوعية من مضادات طيران ودروع، وحتى من دعم الدعوات لتطوّع المقاتلين الراغبين بالقتال في صفوف الأوكرانيين كما فعل رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، لوجد أنّ هذا الأمر يدلّ على التغيّر الجذري في المزاج العام الأوروبي تجاه روسيا والأزمة الراهنة في أوكرانيا. لقد اندثر الوهم الأوروبي القائم على الاعتقاد بعدم إمكانية اندلاع أية حروب أوروبية داخلية.

يعتبر الروس أنّ من حقّهم إبعاد شبح التهديد العسكري والأمني الذي يمثله حلف الناتو عن حدود روسيا

يطرح هذا الأمر أسئلة كثيرة عن أسباب لجوء الروس للحل العسكري، وعن سر هذا التصلب الروسي في مواجهة أوكرانيا. وللإجابة على هذه الأسئلة لا بدّ من استعراض المشهد في كل من أوكرانيا وروسيا وطبيعة العلاقات التاريخية بينهما ولو بشكل سريع. فالروس من جهتهم يعتبرون أوكرانيا جزءًا من روسيا، وقد صرّح بذلك الرئيس فلاديمير بوتين في خطابه المتلفز الأخير قبل الهجوم بليلة واحدة. وفي أحسن الأحوال يعتبر الروس أنّ أوكرانيا جزء من المحيط الاستراتيجي الروسي، وهم لا يقبلون بأن تنقلب من حليف إلى عدوّ بأي شكل من الأشكال.

كما يعتبر الروس أنّ من حقّهم إبعاد شبح التهديد العسكري والأمني الذي يمثله حلف الناتو عن حدود روسيا، وهم يستشهدون لذلك بردّ فعل الأميركيين في ستينيات القرن الماضي على محاولة خروتشوف نشر صواريخ نووية في كوبا رداً على نشر أميركا مثلها في بريطانيا وإيطاليا وتركيا. كذلك يرى الروس أنّ أوكرانيا قد استفادت من العلاقات مع روسيا كثيراً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد ذكر الرئيس الروسي أنّ ما أنفقته روسيا على مساعدة أوكرانيا منذ ذلك الوقت يزيد على 100 مليار دولار، أمّا قبل الانهيار فكان الرقم على مدى عقود أكثر من مئة وخمسين ملياراً، وبالتالي لا يجب أن تكون أوكرانيا ناكرة للجميل، ويجب ألا تشكّل منصّة لضرب المصالح الروسية. لا شكّ أيضاً أنّ للروس أهدافاً اقتصاديّة من وراء إصرارهم على السيطرة على أوكرانيا، فأراضيها – على مساحتها الشاسعة – تعتبر ممراً هاماً وضرورياً للغاز والنفط اللذين تزوّد بهما أوروبا.

أمّا على الناحية الأوكرانية، فلا بدّ للمرء من قراءة التنوّع العرقي والمذهبي الأوكراني، فالمناطق الشرقية من أوكرانيا تقطنها غالبية عرقية روسية وأكثر من 70% من سكان إقليم الدونباس يتحدثون الروسية حتى ولو لم يكونوا من الروس أصلاً، وهم بغالبيتهم الساحقة من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. كما لا يغيب عن البال أنّ الأوكرانيين الغربيين الذين هم بالغالبية الساحقة من أتباع الكنيسة الغربية الكاثوليكية، قد ساهم قسم منهم في حرب هتلر على الاتحاد السوفييتي، فهم يكنّون ضغينة وكرهاً للروس لا يمكن إخفاؤهما. إضافة إلى ذلك، لا ينسى الأوكرانيون أنّ روسيا كانت على الدوام نصيرة الحكّام الديكتاتوريين الذين كانت تنصّبهم لإبقاء بلدهم تحت وصايتها. من ناحية ثانية، فقد ألجأ الأوكرانيون الروس لشراء مخزونهم من الأسلحة النووية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ووقعوا مقابل ذلك على اتفاقية عدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وتنصّلهم من هذه الاتفاقية الآن لم يرق للروس بكل تأكيد.

لا يغيب عن البال هنا قراءة المصالح الأميركية في هذا التصعيد، فالمتابع للموقف الأميركي يرى توجّساً كبيراً من التقارب الاقتصادي الألماني الروسي خاصّة، وكأنّ نظريات الجيوبولتيك السياسي للقرن الماضي تعود للواجهة، ألم يتمّ إنشاء حلف الناتو أساساً لمنع ألمانيا من النهوض عسكرياً مرّة جديدة! ترى الولايات المتحدّة أنّ من مصلحتها الإبقاء على التهديد الروسي قبضة مرخيّة على عنق الأوروبيين، فلا هي تتركها تخنقهم، ولا هي تحررهم منها نهائياً. فالمصلحة الاستراتيجية تقتضي أن يبقى البعبع الروسي حاضراً لتبقى القوات والقواعد الأميركية في أوروبا من جهة، ولتبقى العلاقات الاقتصادية مع الشقيق الأكبر مفتوحة على كل المستويات من جهة ثانية.

هذه أوّل حرب أوروبية تخوضها دولة نووية تملك حق النقض ضدّ جارة أوروبية، أي ليست حرباً في حديقتها الآسيوية الخلفية كما حصل في الشيشان

شهد العالم فترة التفرّد الأميركي والغربي إثر سقوط المعسكر الشرقي، لكنّ التوازن بدأ يعود للنظام العالمي بعد صعود الصين بشكل كبير من جهة، وبعد تعافي الاتحاد الروسي من صدمة السقوط نسبياً من جهة ثانية، يُضاف إلى ذلك كلّه مجموع الهزائم التي منيت بها الولايات المتحدة من حروبها في العراق وأفغانستان، والتي أنفقت عليها الكثير دون طائل يذكر. فهل نحن أمام مشهد استكمال انهيار النظام العالمي الراهن الذي جاء ثمرة لاتفاق الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية؟

يبدو الآن وكأنّ الانهيار قادم بخطوات حثيثة، فهذه أوّل حرب أوروبية تخوضها دولة نووية تملك حق النقض ضدّ جارة أوروبية، أي ليست حرباً في حديقتها الآسيوية الخلفية كما حصل في الشيشان. هي حرب بين دولتين، وليست حرباً أهلية كما حصل بين الصرب والكروات والبوسنيين عند تفكك يوغسلافيا السابقة. إنها حربٌ مباشرةٌ وليست حرباً بالوكالة، وهي بين الأوروبيين وليست بينهم وبين الأفارقة أو الآسيويين!

هل هي لعبة بين الروس والأوكرانيين، أم إنها أكبر من أن يلعبها اثنان وتحتاج فرقاً متعددة من المتبارين؟

مجمل ما ذكرنا من أسباب يجعل من الحرب الدائرة أحد أشكال تخلّق النظام العالمي الجديد، عالم المصالح والمطامح بين الفيلة والدببة، ونحن الواقفين على خطوط النار وحدود الخرائط والثروات، يبدو أننا مجرّد أرقامٍ أو بأفضل الأحوال شهودٌ صامتون على عبث البشر بمصائر البشر، شهود أو ضحايا لا فرق، ما دام الجميع منّا معدومي الحيلة، خاصّة في شرقنا الأوسط المنسي والبائس.