icon
التغطية الحية

في النقد والاختلاف في المجال الثقافي والأكاديمي (العربي)

2024.05.30 | 11:03 دمشق

آخر تحديث: 30.05.2024 | 11:03 دمشق

545456
+A
حجم الخط
-A

تعتمد قيمة النقد ومسيرته أو سيرورته وتأثيراته أو نتائجه في المجال الثقافي العام عمومًا، أو في هذا السياق المحدد أو ذاك، لا على إنتاج النقد ومضمونه وطريقة التعبير عنه فحسب، بل تعتمد، أيضًا وخصوصًا، على (طريقة) تلقيه والتفاعل معه من كل الأطراف المهتمة والمنخرطة في المجال (الثقافي) العام، ومن الأطراف المنقودة أو المعنية بمضمون النقد خصوصًا.

وتبين الحالة النقدية بين جورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري أهمية التفاعل النقدي. فعلى الرغم من أن طرابيشي أفنى قرابة ربع قرنٍ في نقد الاعمال النقدية للجابري، وقدم أكثر من أربعة كتبٍ ضخمةٍ في هذا الخصوص، فإن الجابري قد اتخذ وضعية "أبو الهول" تجاه هذا النقد، فأجهض مشروع هذا الحوار النقدي في مهده، أو جعله "حوارًا بلا حوارٍ"، وفقًا لتعبير طرابيشي نفسه. وبالتأكيد، لا يعني ذلك أن نقد طرابيشي قد فقد (كل) أهميته، بسبب انعدام تفاعل الجابري معه، لكنه يعني أنه كان من المرجح أن تزداد قيمة هذا النقد وفعاليته وتأثيراته لو أن الجابري تفاعل معه التفاعل الإيجابي الذي يستحقه. ولا تبدو الحجج أو الذرائع المستخدمة لتبرير أو تفسير رد فعل الجابري مقنعةً أو مقبولةً عمومًا. فالقول إن الجابري لا يقرأ النقد الذي يُوجَّه إليه، ولا يرد عليه عمومًا، غير دقيقٍ، لأن نصوص الجابري تتضمن عرضًا لنقود آخرين ومناقشةً لتلك النقود. أما الحديث عن أن الجابري لم يرد، "لأن طرابيشي لا يحمل درجة الدكتوراه"، أو "لأن طرابيشي مسيحي!" فأمر مؤسفٌ يصعب فهمه وتصديقه، ويستحق النقد، بل الانتقاد الشديد.

الوضع في الحالة العربية أكثر تعقيدًا حين يخرج النقد عن الأصول والاخلاقيات المطلوبة؛ لعدم وجود ثقة في السلطات القضائية أو الأمنية أو السياسية العربية في كثيرٍ من الأحيان

وغالبًا ما ينظر إلى النقد، وينظَّر له، بوصفه ذا قيمةٍ إيجابيةٍ، دائمًا أو من حيث المبدأ. لكن يمكن المجادلة والمحاججة أن النقد ذو قيمةٍ مشتقةٍ، بمعنى أن قيمته مستمدةٌ من قيمٍ أو أفكار أخرى. فثمة إمكانيةٌ للقول إن النقد مهمٌّ وذو قيمة بقدر ما يكون تجسيدًا للاختلاف، وتعبيرًا عنه، وإسهامًا في حفظ حريات المختلفين وحقوقهم. وبطريقةً أكثر وضوحًا وتجريدًا، يمكن القول إن التمييز بين النقد البناء والنقد الهدَّام له معنىً ومعقوليةً أكثر بكثيرٍ مما يظن كثيرون. فتقييم النقد ينبغي أن يكون على أساسٍ براغماتيٍّ، أي على أساس المنافع أو الإيجابيات التي يحققها، أو يسهم في تحقيقها، أو يفضي إليها. ويمكن الدمج بين الرؤية التي ترى أن النقد إيجابيٌّ دائمًا والرؤية التي ترى أن قيمته تعتمد على نتائجه، بالقول إن الكشف المتوازن عن السلبيات والإيجابيات مفيدٌ دائمًا، لأنه يسمح، من حيث المبدأ وفعليًّا، بالتقليل من السلبيات أو التخلص منها، وبتعزيز وجود الإيجابيات وزيادتها.

***

وبصرف النظر عن كون قيمة النقد مبدئيةً ومحايثةً له، أو سياقيةً ومشتقةً ومعتمدةً على النتائج التي يسهم في تحقيقها، ففي كل الأحوال، تبقى تلك القيمة محدودةً وغير مطلقةٍ، وبالتالي ينبغي معرفة حدود تلك القيمة وإدراك ضرورة تجاوز النقد إلى ما بعدٍ ما. وإضافةً إلى المفارقة القائمة في التمجيد النظري لممارسة النقد والنفور العملي من تلقيه، يبدو أن الرؤية التقييمية للنقد، في الثقافة العربية، تتضمن تقييمًا مفرطًا في الإيجابية للنقد، من دون تقديم مسوغاتٍ كافيةٍ ومعقولةٍ لذلك التقييم الإيجابي، ومن دون توضيح حدود القيمة المعزوة للنقد. ومن الناحية النظرية، سأكتفي، في هذا السياق، بالإشارة إلى أن قيمة النقد محدَّدة ومحدودة بمدى كونه بنَّاءً.

والقول بأن قيمة النقد تعتمد على مدى إيجابية نتائجه لا ينفي الحق المبدئي في ممارسة النقد بغض النظر عن النتائج المفترضة. فالحق المبدئي بالنقد مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بحقوقٍ وحرياتٍ أخرى: كحرية التعبير والتفكير والاعتقاد والحق في الاختلاف وما شابه. فمن حيث المبدأ، للنقد الحق في الوجود، وذلك الحق مشروط بالالتزام بأصول النقد واخلاقياته العامة فقط.

فلممارسة النقد، عمليًّا، أصولٌ وأخلاقيات، بالتأكيد. وتضعف قيمة النقد أو تنعدم، في حال مخالفتها، وبقدر الابتعاد عنها. ومن حيث المبدأ، ينبغي للاختلافات الفكرية والتفاعلات النقدية أن تبقى في مجال الثقافة والفكر والقول، لكن ما الذي نفعله عندما يخرج النقد عن تلك الأصول والأخلاقيات، وعليها، ويضرب بها عرض الحائط والسقف وطوليهما؟ سأستحضر هنا مثالين أو ثلاثة أمثلة من الواقع "الغربي" و"العربي"، الراهن، لتوضيح هذه المسألة.

منذ بضعة أشهر وألمانيا تعيش حالةً من الجنون تجاه ما يحدث فيها وخارجها، بعد هجمات حماس في السابع من أكتوبر. وتجلى تلك في انحيازٍ أعمى لإسرائيل وحساسيةٍ مَرَضيةٍ من أي نقدٍ موجهٍ إليها. وسبق لي الكتابة عن عددٍ من المواقف الألمانية المخزية في هذا الخصوص. ومن بين تلك المواقف إنهاء عقد الأنثروبولوجي اللبناني الأسترالي المرموق غسان الحاج نتيجة وشايات معيبة ومغلوطة من صحيفة يمينية في خصوص مواقف الحاج من إسرائيل واحتلالها وجرائمها. وفي الأسابيع والأيام القليلة الماضية كان هناك تحريض يميني كبير على أساتذة الجامعة الألمان الذين وقعوا عريضة رفضوا فيها تدخل الشرطة لفض اعتصام في الجامعة داعم لفلسطين. وبدا ذلك التحريض واضحًا في جريدة بيلد اليمينية التي نشرت، منذ بضعة أيام، صورًا لبعض هؤلاء الأساتذة مع عنوان يجعل كلمة الجامعة تمتزج مع كلمة قاتل. في الحالتين، تم اللجوء إلى القضاء ردًّا على التصرفات المذكورة. هذا ما فعله غسان الحاج وهذا ما فعلته جامعة برلين الحرة. ويبدو اللجوء إلى القضاء مفهومًا ومعقولًا ومسوَّغًا، في السياق المذكور، بسبب انعدام إمكانية التفاهم مع الجهات المدّعى عليها، من جهةٍ، وبسبب وجود ثقةٍ في استقلالية السلطة القضائية ونزاهتها، من جهةٍ أخرى.

في الحالة العربية، الوضع أكثر تعقيدًا، حين يخرج النقد عن الأصول والاخلاقيات المطلوبة. وسأعطي مثالًا أو أمثلةً من الوسط أو المجال الثقافي، لأن "الجنون العربي" في المجال السياسي يمكن أن يفوق "الجنون الألماني" المذكور بمراحل كثيرةٍ. وليس نادرًا أن تتعرض الشخصيات الثقافية العامة في العالم العربي للشتم والقدح والإشاعات المسيئة والمغرضة ونادرًا ما يتم اللجوء إلى القضاء لوضع حدٍّ لذلك. لكن حصل مؤخرًا حادثة في الوسط الثقافي الأكاديمي التونسي بينت مأساوية الوضع العربي عمومًا، في هذا الخصوص.

***

منذ بضعة أشهر كتب "أستاذ/ بروفسور جامعي تونسي" منشورًا فيسبوكيًّا يتهم فيه زميلًا جامعيًّا له بأنه ارتكب، في نصٍّ له، "سرقة علمية موصوفة لأعماله حول محمد عبده". وذكر أربع نقاطٍ سريعةٍ زعم أن أعماله هي التي بيّنتها "وكل المراجع تنسبها له". وقد كان المنشور مكتوبًا في صيغة رسالةٍ إلى الأشخاص المسؤولين عن الكتاب الذي يتضمن النص المذكور، ويتضمن مطالبةً بسحب النص المذكور من الكتاب المنشور والتوقف عن نشر الكتاب وتوزيعه إلى حين حصول ذلك. وقد ردَّ زميله عليه بعدة منشوراتٍ فيسبوكيةٍ، فنَّد فيها كل الادعاءات والاتهامات، واعلن استعداده لمناقشة المسألة بصراحةٍ وهدوءٍ ومهنيةٍ، والخضوع لأي نوع من أنواع المساءلة والتحقيق في هذا الخصوص. وبيَّن، بالتفصيل، اختلاف مضامين نصه عن مضامين نصوص البروفسور المذكور. وانتظر مع كثيرين آخرين أن يقدم البروفسور ما يسوغ ادعاءاته. ومن بين ذلك جدول زعم البروفسور أنه يملكه ويبين مواضع السرقة الموصوفة المزعومة. لكن بدلًا من ذلك، قام البروفسور بتصعيدٍ أخرج النقاش عن سكة المعقولية والأعراف الأكاديمية الحسنة، حيث كتب منشورًا فيسبوكيًّا تضمن ألفاظًا نابيةٍ غير لائقةٍ مطلقًا (بعبوص كعلوس)، واستمر في ادعاءاته واتهاماته، وحاول تجريد زميله من كل جدارةٍ معرفيةٍ أو أكاديميةٍ، وأعلن أنه "أغلق ملف هذا المنتحل". كما قام بمنع زميله من التعليق على صفحته. وبعد أن تبين عدم جدوى أي محاولةٍ للتفاهم مع البروفسور المذكور، لجأ زميله إلى القضاء لإثبات براءته من التهم الشائنة المذكورة، و"لاسترداد كرامته المهدورة"، وفقًا لتعبيره الحرفي.

ما حصل بعد ذلك لا يقل سوءًا عما حصل قبله. حيث نشر البروفسور المذكور، على صفحته الفيسبوكية، بيانًا وعليه تواقيع عشرات من الأكاديميات والأكاديميين في تونس، ويتضمن تعاطفًا مع البروفسور، واستياءً من السابقة الخطيرة المتمثلة في الدعوى القضائية المرفوعة ضده، وتأكيدًا على ضرورة حلّ الإشكالات بين الزملاء في الأطر الجامعية أو النقابية، ودعوةً إلى بحثها وحلها بواسطة الحوار، حفاظا على سمعة الجامعة. السيء جدًّا في هذا البيان، وفي التواقيع التي تضمنته، هو "صرف النظر عن موضوع التدوينة وحيثياتها"، وعدم الاكتراث بكل التفصيلات، التي تكمن فيها لا الشياطين فحسب، بل الملائكة أيضًا. فمع هذا التعامي المسمى "صرف نظر"، أصبح الشخص المسيء ضحيةً والشخص الضحية مدانًا، وكل ذلك من أجل الحفاظ على سمعة الجامعة! ولا أدري كيف يمكن الإساءة للجامعة ولسمعتها المذكورة أكثر مما الإساءة التي تضمنها أو فعلها ذلك البيان، والموقعات والموقعون عليه، مع الإقرار بالاعتقاد بحسن نية الكثيرات والكثيرين منهم!

***

الوضع في الحالة العربية أكثر تعقيدًا حين يخرج النقد عن الأصول والاخلاقيات المطلوبة؛ لعدم وجود ثقة في السلطات القضائية أو الأمنية أو السياسية العربية، في كثيرٍ من الأحيان. أو لأن هناك ثقة بأن هذه السلطات سيئة، وينبغي عدم اللجوء أو الركون إليها أو الاعتماد عليها، في هذا الخصوص. لكن ما الذي يمكن أو ينبغي أن يفعله من يتم المس بكرامته والإساءة إليه وتشويه سمعته وهي كل أو أهم ما يملكه (هذا) الباحث الأكاديمي؟ وهل الحل يكون بحرمان الشخص من حق التقاضي وإعادة الاعتبار لذاته وكرامته المهدورة؟ لقد بدا أن البيان المشؤوم المذكور يعطي حصانةً للأكاديميين من تعرضهم للمقاضاة، بصرف النظر عن الإساءات التي يمكن أن يقترفونها في كتاباتهم ومنشوراتهم الفيسبوكية وغير الفيسبوكية!

يبيِّن التعقيد المذكور، في خصوص الوضع (الثقافي) العربي، مدى أهمية دولة القانون والمؤسسات، وفصل السلطات، واستقلالية القضاء، ووجود تنوعٍ في أصوات السلطة الرابعة. وفي ظل غياب أو تغييب هذه الدولة، وتلك الاستقلالية، وهذا الفصل، وذلك التنوع، تتعرض كل المجالات الاجتماعية والثقافية للتشويه والتدهور والانحطاط، ثم يأتي من يحمل تلك المجالات مسؤولية غياب أو تغييب الديمقراطية وضعف أو إضعاف دولة القانون والمؤسسات!