icon
التغطية الحية

في العلاقة بين القانون والشعر

2021.11.01 | 08:58 دمشق

في العلاقة بين القانون والشعر
تعبيرية (إنترنت)
+A
حجم الخط
-A

نادراً ما بحث أحدٌ في العلاقة بين القانون والشعر، وقد يرفض أحدٌ الإقرار بوجود علاقةٍ ما. والحقيقة أن البحث في صلةٍ بين أيّ مفهومين يبدوان متناقضين للوهلة الأولى، هو بحثٌ يكون من باب افتراضي في البداية، ثم ما يلبث أن يأخذ الأمر صيغة أكثر جدّية ومعقوليةً.

ومن حيث المبدأ الأولي، يمكن أن نطرح افتراضات خاصة بالعلاقة بين مفهوم القانون، ومفهوم الشعر. بين رجل القانون ورجل القصيدة. وسنرى أن العلاقة ممكنةٌ واقعياً وليس افتراضياً فقط. إن التأمل في وظيفة القانون ومهمته التي يؤديها في الحياة، حياة الفرد والجماعة والدولة، سيكشف عن أن المهمَّة الكبرى له هي الدفاع عن الحقّ، والانحياز له دائماً، وترسيخه كمفهوم إنسانيٍّ يعتاد الناس عليه ويتآلفون معه ويدافعون عنه ويتشبثون به مهما كانت النتّائج.

ولنذكر أننا نتكلم عن الحق كوظيفة ومهمّة للقانون، من باب المفهوم الكبير، والمبدأ الأساسيّ الذي تبنى عليه تصورات لاحقة وتضاف إليه شروح وتأويلاتٌ تتخذ طابعاً مختلفاً باختلاف الزمان والمكان. ولكن يبقى الحق غاية القانون باعتبار القانون من وضع عقلٍ بشريٍّ يتفكر في شؤون العباد والبلاد من زاوية الحفاظ على أمنهم وسلامهم وصحّتهم، وتأمين الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. أمّا إذ نظرنا في أمثلة تاريخية معيّنة تنمّ عن توظيف القانون لأهداف غير إنسانية مطلقاً، فإنّ هذا يعتبر انحرافاً عن المفهوم الجوهري، وهروباً من تحقيق الخير وتأمينه للجميع، إلى نهب البلاد وإشعال حروب تطيحُ بجوهر الإنسان ونبل غاياتهِ.. إذاً نحن نتحدث عن قانون ينظم فعلياً فوضى البشر، ويهذب نزعاتهم وغرائزهم ويقودها إلى لحظات جميلة تحقق الفرح والنَّشوة والأمان لهم. وبهذا المعنى فإن القانون ينطلق من فطرة الإنسان وطبيعته الأولى، نحو لحظةٍ أكثر تثقيفاً ، جاعلاً من نزوع الإنسان ميلاً إلى الخير لا إلى الجريمة. وانطلاقاً من كرامة الفرد إلى كرامة المجموع انتهاء بكرامة الوجود.

نلمح الشعر يتغنى بالشجر والماء والطفولة والوطن والمرأة، ويبكي على انتشار الفساد في الأرواح والسلوك والفكر

وماذا يفعل الشعر غير ذلك؟ الشعر من حيث الأساس هو احتفالٌ بحرية الإنسان وعدالته، ودفاعٌ عن حقه في الحياة والغناء والفرح والأمن والسلام. وهو يدمج بين مشروع الصوت الفردي، ومشروع الصوت الجماعي. من هنا نلمح الشعر يتغنى بالشجر والماء والطفولة والوطن والمرأة، ويبكي على انتشار الفساد في الأرواح والسلوك والفكر، ويرثي لحال الأرض التي تنحرف عن طبيعتها بجهود تجار الحروب ودعاة الطغيان. إن الطغاة دائماً موضع انتقاد وتعرية من الشعر، مثلما المجرم موضع إدانة رجل القانون. وكما يطالب القانون أن يحصل صاحب الحقّ على حقّه بكل وضوح، فإن الشعر يقاتل ببسالة من أجل أن يحصل الفقراء والمتعبون والعشاق والحالمون على حقوقهم ليسود حسُّ الجمال على الأرض.

الجمال إذاً هو مشروع الشعر، إضافة إلى الحق، ولن ينتشر هذا وذاك إلاَّ بانتشار الخير. وبذلك يكتمل معنا الثالوث المطلق: (الحقّ، الخير، والجمال) ليكون هو موضوع القانون وموضوع الشعر معاً، كلّ بآلياته ولغته وظروفه. ولا يمكن أن يكون الشعر حقيقياً عندما يدافع عن القتلِ وإراقة الدّماء مثلاً. ومن يقبل من أي قانون كان، أن يشرّع القتل الحرام والدّم البريء؟

قد تصادفنا قصائد، وما هي بالقصائد في الواقع، تدعو إلى قتل الأطفال، والأمَّهات، وذلك كما هو شائع ومعروف في كتابات بعض أدباء (الصهاينة)، حيث يدعون علانية إلى إبادة أطفالنا وأمَّهاتنا وإحراق ترابنا وديارنا.. إنّ الشعر عندما يصبح دعاية من هذا النوع المنحطّ، يكون قد خان وظيفته الإنسانية الأساسية، وهو بذلك يشبه رجل القانون عندما يستخدم القانون من أجل نقل التهمة بالقتل من المجرم الحقيقي إلى شخص بريء فعلياً. وعلى هذا يكون الاثنان الشعرُ والقانون، ميزان العدالة من أجل غايات تتنافى إطلاقاً مع كرامة الوجود.

الشعر النبيل ليس مع شخصٍ يُدير الأمور في بيته، أو وطنه، منطلقاً من أنانيته وضيق رؤياه، لاهثاً وراء أمجاد يعتقد أنها تبني بالظّلم والطغّيان. الشعر الحقيقيُّ مع أن تعود الأرض مثلاً إلى أصحابها الفعليين التاريخيين والقانون يفعل الشيء نفسه. ولنتذكر الفعالية الكبيرة لرجال القانون الذين أخذوا على عاتقهم قضية الأرض الفلسطينية، ووضعها القانوني، الذي يثبت أمام أنظمة العالم وشرائعه كلها، أنها أرض أصحابها فلسطينيون وليسوا قادمين من وهم التاريخ. ولنضع ذلك إلى جنب الأرض كموضوع شعري لجميع الشعراء الفلسطينيين وغيرهم من العرب. لم تقل قصيدة إنها مع التنّازل في ذلك بقانونهم الذي يشرع بالاحتيال والنَّصبِ، احتلال الأرض وأكل حق أهلها. فلا كان قانونهم إنسانياً ولا شعرهم حقيقياً.

كذلك لا يحتفل شاعر حقيقي بشخصية مثل هتلر، أو موسوليني، على سبيل المثال، لأن الاحتفال بمثل هؤلاء هو إطاحة خطيرة بروح الشعر. فهؤلاء يعتبرون مجرمين، وعليهم أن يمثلوا أمام القانون وعلى الشعر أن يفضح دكتاتوريتهم ودورهم المشبوه في إشعال حروبٍ ما زال البشر يدفعون ثمنها حتى الآن.

كما لا يمكن لشعرٍ أن يرى في دكتاتور عربي، مسلم، شرقيّ، موضوعا لقصيدة! فالقصيدة بإمكانها الانشغال بأي موضوع حتى بالموت والعبث والحيوانات والشياطين... لكن أن ترى في شخصية طاغية مادة للمديح؛ فهذه خيانة عظمى للشعر. لا يكون الدكتاتور إلا مادة للهجاء والسخرية كما فعل أكثر من شاعر مثل محمود درويش ونزار قباني. وكيف لشخصية قانونية أن تدافع عن طاغية دفاعا له مسوغاته الأخلاقية؟ يتفق هنا الشعر مع روح القانون حين يتصدى لهما مبدع يعي دوره الإنساني الطبيعي.

لهذا فنحن نقف بشكل مضادّ لأي شاعر مهما كان كبيرا ومهمّاً حين ينزل بشعره وجماليته إلى سوية مديح طغاة من أمثال الأسد الأب والابن. وقد فعل ذلك شعراء كبار عديدون، نحن نرفض وندين ذلك ونعتبره انحداراً أخلاقيّاً غير مقبول، وهو خيانة للقانون الطبيعي للشعر الذي ينبغي أن يدافع عن الحقّ والحياة والبشر لا أن يخون ذلك بالارتماء في أحضان طاغية مهمّته الأساسية اغتيال الجمال والاعتداء على القانون نفسه. إن خرق قانون الشعر هو خرق لروح (القانون) نفسه من حيث انحراف كل منهما عن مساره الطبيعيّ.   

هذا، ومن أجل أن يمارس رجل القانون وظيفته على خير وجه، يجب أن يكون حرّاً مستقلاً، لا يخشى لومة لائم كما عليه أن يكون بليغاً فصيحاً، وصاحب رؤية ورؤيا بخصوص القضايا التي يدافع عنها، ومطلوب منه أن يتمثل روح القانون، ليدرك كيفية توظيفه لخدمة الإنسان. وهكذا الشاعر تماماً. يمارس فعله الشعري وهو متمتع برؤيا شاملة ثاقبة، تدرس التفاصيل وتضعها في سياقها العام، وتربط الجزء بالكلّ، كما يربط رجل القانون بين خيوط قضيته ويشكل منها رزمة واحدةً يخترق كثافتها بلحظة إشراق عقليٍّ صافٍ ليتمكن من التقاط ما هو مطابقٌ للحقّ والجمال والخير.

كذلك على الشاعر أن يكون حرًّا في حياته ومواقفه وتعبيره، فهو ذو غاية إنسانية أخلاقية جمالية فحواها الحرية ونشر ثقافتها وتعميم روحها حتى وهو يتحدث عن الجنس أو الحلم أو الطبيعة.

أما عن علاقة الشاعر ورجل القانون باللغة فحدث ولا حرج. صحيح أن لكل منهما لغته وهما على طرفي نقيض. إذ ليس معقولاً أن يدافع رجل القانون بلغة مجازية تأويلية، تحتمل عدّة قراءاتٍ كما يفعل الشاعر المبدع، ولكن هذا القانوني بحاجةٍ إلى تماسك المنطق اللغوي لتقوية بيانه ودفاعه. كما هو مطلوب من مشرّع القانون أن يعتمد اللغة الدقيقة الحسَّاسة وكذلك تقع على الشاعر مسؤولية عدم الوقوع في فوضى الكلام وهذيانه. وأن يخرج عمله متماسكاً في بنيته ومهما أوغل الشاعر في مجازاته واستعاراته، فهو محكوم بنوع من المنطق الدَّاخلي يضبط مسار عمله ويحميه من التَّشتّت.. وكما تضيع رسالة القانون عندما يكون مائعاً قلقاً مشوّشاً، تضيع رسالة القصيدة عندما تغرق في ميوعة اللُّغة واضطرابها.

وكم اشتهر قضاة ومحامون بأسلوبهم في الدِّفاع ولغتهم في مرافعاتهم وأسئلتهم ومداولاتهم. وكم يعطي ذلك زخماً معنوياً لمناخ القانون بصورة عامةٍ من خلال أشخاص يتمتَّعون بقدرات لغويةٍ ومهارات أدائيةٍ وحواريةٍ. وكم يشبه ذلك موقف الشاعر عندما يمنح بموهبته وقدرته الفذّة، مناخ الشعر نكهة خاصة ويضع على جدار الإبداع بصمته الخاصة.

أخيراً، هل استطعت إقامة علاقة ما بين القانون والشعر؟ لقد بدا الأمر تساؤلاً طريفاً وانتهى بهذه المقارنات التي أتمنى أن تحمل قدرة على الإقناع.