في أنَّ النظام السوري كان يفصل السلطات!

2023.06.24 | 06:03 دمشق

آخر تحديث: 24.06.2023 | 06:03 دمشق

في أنَّ النظام السوري كان يفصل السلطات!
+A
حجم الخط
-A

سيضحك القارئ السوري من ختل العنوان وإفكه المبين، فالسلطات في دول العالم هي ثلاث وهي أركان الدولة التي بها قيامها؛ تشريعية وقضائية وتنفيذية، وهي متكاملة ومتعازلة؛ سلطة تشرّع، وثانية تقضي، وثالثة تنفذ ما تشرعه الأولى وما تقضي به الثانية، أمّا في سوريا وأخوات لها عربية، فهي سلطة واحدة، وليست ثلاثًا، بل هي شخص واحد، فردٌ صمد، وكان النظام في شعاراته يجاهر باتحادها، فالرئيس هو القاضي الأول، وهو المعلم الأول، وهو الجندي الأول، ولم يترك الرئيس حرفة من الحرف السيادية العامة المؤثّرة إلا وجعل نفسه الأول فيها. وكانت مصر وهي أقرب الدول العربية لسورية جسدا وروحا، قد أنشأ فيها عبد الناصر شبكة معقدة من مؤسسات القضاء، مثل المحكمة الدستورية العليا، محكمة أمن الدولة العليا، وهيئة القضاء العسكري، وهيئة النيابة الإدارية، للتحكم بها، وضرب بعضها ببعض، فالقضاء نفسه فيه سلطات متعازلة ومتخاصمة ومتنافسة على خدمة "الرعية". العنكبوت تأكل زوجها العنكب، والعناكب تأكل أمها، وهكذا.

الأمن الجوي، فهو طائر الرخّ الذي هو فوق جميع الطيور، اسم فرعه الأكبر فرع فلسطين وليس فرع إسرائيل، حتى يصير الاسم مكروهًا لدى الشعب

يعلم السوري العاميّ عين اليقين أنَّ القضاء كان تابعًا لسلطة السلطات، وهي المخابرات، لكن المقصود من العنوان أنَّ الرئيس كان قد جعل المخابرات فروعًا كثيرة، حتى صار اسم كل مبنى مخابرات فرعًا لأصل هو الرئيس، وهي مبان عزلاء من الأسماء والعناوين، وتعرف بأسوارها العالية وحواجزها وافتراسها الشوارع العامة، وقضمها الساحات العامة، وكان النظام قد منحها أرقامًا مثلها مثل المعتقلين، حتى يوهم بالكثرة، فهي 255، و999، وهكذا دواليك.

وكان بينها فصل سلطات، فالأمن السياسي مفصول عن أمن الدولة، وعن الأمن العسكري، أمّا الأمن الجوي، فهو طائر الرخّ الذي هو فوق جميع الطيور، اسم فرعه الأكبر فرع فلسطين وليس فرع إسرائيل، حتى يصير الاسم مكروهًا لدى الشعب، الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود، ويعلم المطلوبون للتحقيق في الفروع أنّ الفروع مفصولة، متنافسة، متسابقة إلى "الخيرات"، وأنّ فرعًا يطلب أحد الرعية، ما يلبث أن يُطلب من فرع آخر للتحقيق في السبب الذي طُلب من أجله، فسوريا بركةٌ، مستنقعٌ يصيد فيه المخابرات الحيتان الغنية بالدهن، للمفاداة أو الرهن أو الابتزاز.

بل إنّ الشعب لم يكن يسمع بالدستور الذي يوزع في دول أوروبا على المدارس في طبعات جيب صغيرة متعددة الأشكال؛ مثل علبة الكبريت، وطبعات مثل علبة الدخان وروايات جيب، وطبعات فائقة الجمال ليعلم الشعب حقوقه، إلا في ذكرى البيعة، فيذكر عرضًا في نشرة الأخبار، وقد غيّرت مادة فيه كما حدث للرئيس الذي لم يكن قد أدرك السن القانونية، فرفع الحاجز، وعبر الرئيس بعمره القانون، فكبر ست سنوات في لحظة من لحظات النظرية النسبية، بسرعة الضوء، ثم أعيدت المادة إلى سابق عهدها، وكأنها حاجز طيار، ولم يعرض التلفزيون قط خبرًا مصوّرًا عن محاكمة، سوى مرتين إشارة، مرة واحدة إبان أحداث حماة، فعرض شهادات بعض المعتقلين، وظهر بعضهم على التلفزيون، وكان له غاية في ذلك. وثانية إبان قتل معشوق الخزنوي، في حين أنّ مصر ما تزال تعرض بعض المحاكمات، وإن كان القضاء قد خبا دوره أيضًا بعد أن اقتدى النظام المصري بالنظام السوري، لكن زبائن الفروع الأمنية كانوا يُلمّون ببعض الأسرار الصغيرة المتسربة من التحقيقات، ويستفيدون من فصل السلطات، منها خبر صديق دهم الأمن العسكري بيته وهو في مصر، فعاد موجلًا، لأنه كان يعرف أن الأمن الجوي هو الذي يحكم المطار، وأنّ الأمن العسكري يضنُّ بمعلوماته على الأمن الجوي، ودخل سوريا بسلام!

كل مواطن هو "ريشة" في مهب السلطات العاتية، واجبه أن يبتعد عن بعضه، أو عن عقله، وكان حصيلة ابتعاده عن بعضه، أن تحولت سوريا إلى ثلاثة كيانات مفصولة السلطات

لكن ذلك نادر جدًا، لا يؤتاه إلا ذو خبرة، ويبدو أنَّ السلطات التي تبلغ العشرات وتوحي بأنها مئات، وهي متفاصلة ومتسابقة "بالخيرات"، لها ديوان واحد على الأغلب الأعم، فهي تخبر بخبر المطلوب، لذلك كان المطلوب يخضع لسلسلة معقدة من إجراءات البيروقراطية الأمنية الصارمة تسمى الجنزير، إذا نجا المطلوب من شبكة العنكبوت الأمنية، وقع في مصيدة فرع آخر، في دولة يدّعي دستورها أنّ الشعب مصدر السلطات، وهو ضحيتها وفريستها، من غير محام طبعًا، فالمواطن وحده سيواجه غول الفرع الأمني، ولا يشكُّ سوريان في أن النظام كان يفصل السلطات التي ذكرناها، وهي ليست ثلاثًا، بل هي كثيرة. ويفصل الشعب أيضًا بعضه عن بعض.

كل مواطن هو "ريشة" في مهب السلطات العاتية، واجبه أن يبتعد عن بعضه، أو عن عقله، وكان حصيلة ابتعاده عن بعضه، أن تحولت سوريا إلى ثلاثة كيانات مفصولة السلطات.

ذلك تأويل نبأ فصل السلطات، أما سواها من المفاهيم مثل الديمقراطية فهي عرس في نشرات الأخبار، والشعارات، ومصيدة للمعارضين، أما البرلمان فهو منظمة طلائع البعث لكن أعضاؤها بأعمار كبيرة، أما السلطة الرابعة فهي النادل الخادم للسلطات المذكورة.