فوبيا الاستبداد عند الكواكبي

2019.11.29 | 17:57 دمشق

hqdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

تمهيداً لرسم صورة المستبد، يستعرض الكواكبي آراء الآخرين فيه، دالاً بذلك على مشاركتهم فيما ذهبوا إليه من وصف للمستبد. فهو من ((يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم)).[1] والكلمات التي تُستعمل مرادفاً للمستبد، مثل (جبار، وطاغية، وحاكم بأمره، وحاكم مطلق..)، لا تعنيه كثيراً بقدر ما يعنيه فحواها: أي معرفة مجموعة الصفات التي إذا اتصف بها شخص ما حقّت عليه تلك التسمية. فهو يأخذها على أنها كلمات تدل على شخص واحد، يسميه (مستبداً)، لا يعنيه إلاّ أن تكون الرعية أذناباً له لا أكثر، وأن يكون الناس أدوات لتنفيذ رغباته. إن ((المستبد يودّ أن تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً))، ليس لهم من هدف إلا خدمة مصالحه. ويريدهم فئة عبيد لا يسعهم إلا السجود أمام شخصه، ما داموا يعيشون في كنف دولته وتحت رعايته.

ويبين لنا الكواكبي كيف ينظر المستبد إلى نفسه وإلى الآخرين، فإن ((المستبد في لحظة جلوسه على عرشه ووضع التاج على رأسه يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً)) لا يُناقش ولا يُعصى له أمر. وهو، لعلمه بسفالته، يحاول أن يغطي قصوره ودونيته بشتى الوسائل والأساليب. لكن ((التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم عوضاً عن العقل والمفاداة)) لا تغني شيئاً عن حقيقتهم، وإنما هم يلجؤون إليها ((كما يلجأ قليل العزّ للتكبر وقليل العلم للتصوف وقليل الصدق لليمين وقليل المال لزينة اللباس)). فما هذه المظاهر القيصرية إلا أقنعة يرقمها

إن المستبد لا يخرج قط عن أنه خائن خائف محتاج لعصابة تعينه وتحميه فهم ووزراؤهم كزمرة لصوص: رئيس وأعوان

المستبدون تعويض عن نقص، يعرفونه، في نفوسهم. لذلك فإن الجالس على العرش ترتعد فرائصه خوفاً من رعيته. ويدرك بما يعلمه عن نفسه من ظلم وتعسف، بأن الرعية قد تجرّده من تاجه في أي لحظة. لذلك فإنه يستعين بأظلم الناس ممن يثق بأنهم على شاكلته، لردع من تُسوِّل له نفسه دفع الظلم أو ردّ الطغيان. فينشئ جيشاً من المستبدين الصغار. ((إن المستبد لا يخرج قط عن أنه خائن خائف محتاج لعصابة تعينه وتحميه فهم ووزراؤهم كزمرة لصوص: رئيس وأعوان)) ولا يلبث أن يتخوف المستبد حتى من أعوانه، فضلاً عن خوفه من رعيته ((لأن أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم لأن هؤلاء أشقى خلق الله حياة، يرتكبون كل جريمة وفظيعة لحساب المستبد)). فيحاول تنحيتهم والقضاء عليهم وبذر الفتن بينهم حتى لا يتفقوا عليه. والمستبد يوهم الناس، عن طريق التنكيل بأعوانه، بأنه صالح عادل، وأن مساعديه ووزراءه هم الأشرار. وكثيراً ما يصدقه الناس متناسين أن المستبد هو الذي عيّن هؤلاء المساعدين والوزراء الأشرار.

 هكذا يرسم (أبو الضعفاء) صورة المستبد، فهو كلما زاد خوفه ازداد بطشه في محاولة منه للحفاظ على نفسه. وكلما زاد ظلماً واعتسافاً ((زاد خوفه من رعيته وحتى من حاشيته، حتى ومن هواجسه وخيالاته)) حيث تصور له نفسه أن كل من يحيط به يسعى إلى قتله. ويبقى غارقاً في الدوامة نفسها، لما يعهده في نفسه من تعوّد على خيانة العهود وظلم الناس، فيخاف حتى من الهواء الذي يتنفسه ويحسب له حساباً. نتيجة لذلك يرى الكواكبي أن ((أكثر ما تُختم حياة المستبد بالجنون التام))، ويعلّق على ذلك: ((قلت التام لأن المستبد لا يخلو من الحق قط، لأن عقله سيبقى يجتر معارفه الأولى فقط، بسبب أسلوبه الاستبدادي في التفكير، أولاً، ولنفاق الآخرين الذين يجارونه في أخطائه ثانياً. لأن كل ما يحيط به يخشى أن يدلّه على صواب الطريق، فما يخالف رأيه، فيفقد رأسه أو مركزه. لذا فإن المستبد، خلال حكمه كله، يبقى يخبط خبط عشواء غير دارٍ الفرق بين الصواب والخطأ. إن مستشاري المستبد لا يصرّحون بآرائهم الفعلية، وهم لا ينفكّون يحاولون استنتاج ما يريد المستبد أن يقولوه فيدلوه به على أنه رأيهم. لذلك حقّ القول: ((إن الصدق لا يدخل قصور الملوك))، مما يجعل الخطأ يجر الذي بعده إلى أن يصبح عقل المَلك (= المستبدّ) مشوشاً مضطرباً يداخله الخبل إلى أن ينتهي بالجنون، ما لم يُنه بطريقة أخرى. ذلك فضلاً عن أنه يبقى طوال حياته أشقى الناس عيشاً وأتعسهم فكراً وروحاً.

ويحرص المستبد على أن يكون أعوانه من حثالة المجتمع، ويحفظ لهم مراتبهم الوظيفية على هذا الأساس بحيث ((يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفة وقرباً، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة))، ذلك ليتمكن من تسليطه على رقاب الناس، وهو على يقين بأن هذا الشخص وأمثاله لن تأخذهم الرأفة بأحد، ولن (يعصوا) لمولاهم أمراً يشم فيه رائحة الدم والانتقام ((إن أكابر رجال عهد الاستبداد لا خلاق لهم ولا ذمة، فكل ما يتظاهرون به أحياناً من التذمر والألم يقصدون به غشّ الأمة))، معتمدين على أن الاستبداد قد أعمى بصر الأمة وسهّل غشّها، لذلك فهُم يتبجّحون كذباً بأنهم هم الذين سيغيرون الأوضاع، وأنهم فقط ينتظرون الفرصة السانحة، وهم في الواقع يبتغون تثبيط عزائم الناس وامتصاص ثورات غضبهم. وهؤلاء المخادعون جبناء مرتشون، وما ثروتهم المكدسة إلا من السرقات المسموح بها في عهد الاستبداد، وما هم إلا فخورون ((بمشاركة المستبد في امتصاص دم الأمة، ذلك بأخذهم العطايا الكبيرة والرواتب الباهظة))، وهم يتصدّقون بالقليل، وقد يشاركون في بناء المعابد سمعةً ورياءً، ((وكأنهم يريدون أن يسرقوا أيضاً قلوب الناس، بعد سلب أموالهم، أو أنهم يرشون الله، ألا ساء ما يتوهمون)). هكذا، يقرر الكواكبي، أن وزير المستبد لا بد أن يكون مستبداً مثله ((يحمل سيف المستبد ليغمده في الرقاب بأمر المستبد لا بأمر الأمة [...] لما يعلم من نفسه أن الأمة لا تقلد القيادة لمثله)). وبعد أن يألف عمال الاستبداد لذة البذخ والجبروت، لا يمكننا أن نصدّق ما يبديه بعضهم ممن تبرم من أسلوب الحكم، ومن اهتمام بمصالح الأمة، إذ كيف يمكن المستبد أن ((يرضى بالدخول تحت حكم الأمة ويخاطر بعرض سيفه عليها فتحلّه أو تكسره تحت أرجلها)). إن تلوّم المستبدين

المستبد لا يفتأ يزيد من عدد أعوانه باطراد مع زيادة جوره على مواطنيه، فلا يلبث أن يعمّ الاستبداد أسلوباً للعيش

الأعوان على المستبد الأكبر ((إن لم يكن خداعاً للأمة فهو حنق على المستبد لأنه بخس ذلك المتلوِّم حقه فقدم عليه من هو دونه في خدمته بتضحية دينه ووجدانه)). إن الكواكبي لا يرى في المستبد وفي أعوانه إلا جماعة متكاتفة على ظلم الناس، متعاونة على إيقاع الاستبداد على الآخرين.

والمستبد لا يفتأ يزيد من عدد أعوانه باطراد مع زيادة جوره على مواطنيه، فلا يلبث أن يعمّ الاستبداد أسلوباً للعيش، ذلك لأن كل فرد من أفراد الدولة، وخاصة المقربين من كراسي الحكم، يحاولون أن يتمثلوا أفعال المستبد الأكبر، وأن يحذوا حذوه، فينتشر الاستبداد في أنحاء الدولة كلها ((الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته)). فتوسع الجهاز الحكومي يؤدي إلى زيادة عدد الذين يستبدون بالقرارات تحت ستار حماية الدولة، ويزداد، بالتالي، عدد الذين ينبغي للمواطنين أن يطيعوهم ((وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب الاستبداد وخفّته، فكلما كان المستبد حريصاً على العسَف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه)). هكذا يتشكل هرم الاستبداد من القمة إلى القاعدة ((ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء الاستبداد مستبداً في نفسه لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم حتى وربّه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره)). فالاستبداد، في فكر الكواكبي، ليس حاكماً يأمر وينهي، بل هو نظام يشمل المجتمع كله. فالحاكم مستبد، وأعوانه مستبدون، وأسرى الاستبداد يتخبطون في رد فعل استبدادي كلٌّ بحسب ما يتسنى له، ولا يبقى ما دون مستوى هذه القاعدة إلا المنبوذون، أولئك الذين عليهم أن يحملوا عبء هذه الطفيليات التي تتكاثر وتتوالد بشكل سرطاني مخيف.

 

[1]  طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ، ص 25- 65.