قال إبراهيم ماخوس وزير الخارجية السورية عام 1967، وبعد يومين من هزيمة حزيران: لقد صمدنا في حرب حزيران لأننا أفشلنا مخططات العدو الإسرائيلي في إسقاط "الحكم التقدمي في سوريا"، وأحبطنا مؤامرته بإزاحة حزب البعث من السلطة. أما صحيفة الثورة السورية فقد وصفت، في 11 حزيران 1967، حرب حزيران بالنصر التاريخي، وأضافت أن "أهم نصر حصل عليه العرب في حربهم مع إسرائيل هو تلك الاندفاعية الثورية التي امتدت من المحيط إلى الخليج". وقال هواري بو مدين، الزعيم الجزائري المعروف، عن هزيمة حزيران، بعد يوم واحد فقط من وقف إطلاق النار: "إن الحرب الحالية لا تستهدف فقط تحرير فلسطين وإنما تحرير العالم العربي من الاستعمار"، بالرغم من أن الحرب انتهت، وأصبحت هضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية أراضي محتلة بالقوة من قبل إسرائيل.
في عام 2005 ألقى بشار الأسد خطابا مرحاً ومليئاً بالضحكات البلهاء، أمام مجلس الشعب السوري، أعلن فيه انسحاب القوات السورية من لبنان، طبعا استجابة للتهديدات الأميركية
وفي بداية الثمانينات أقيمت في سوريا مسيرات ومهرجانات خطابية طنانة احتفالا بالخطاب الناري الذي ألقاه حافظ الأسد ردا على قرار إسرائيل في 14 كانون الثاني 1981 القاضي بضم الجولان إلى إسرائيل، وفرض الهوية الإسرائيلية على أهل الجولان. في الخطاب المذكور أكد حافظ الأسد أن قرار إسرائيل بالضم لا يقدم ولا يؤخر وأنه سيضع الجولان في وسط سوريا، ويريد "فلسطين قبل الجولان". حيث طغت الاحتفالات بهذا التصريح على ضم الجولان، وعدم قيام حافظ الأسد بأي رد فعل على أرض الواقع.
في عام 2005 ألقى بشار الأسد خطابا مرحاً ومليئاً بالضحكات البلهاء، أمام مجلس الشعب السوري، أعلن فيه انسحاب القوات السورية من لبنان، طبعا استجابة للتهديدات الأميركية، التي وصلت إلى حد التوعد بالقيام بأعمال عسكرية قد لا تحسب عقباها. ألقى الأسد كلمته في حفل مهيب، وتجمع الناس بالآلاف أمام مجلس الشعب يهتفون له، ويستمعون إلى خطابه وقوفا. أما تصفيق أعضاء مجلس الشعب ووقوفهم في أثناء التصفيق لأكثر من خمس مرات فيوحي بأننا أمام خطاب انتصاري بامتياز. وفي الحقيقة، لا يخطئ المستمع إذا فهم من تلك الابتسامات والضحكات والهتافات بأنها كانت تريد أن تقول: لقد انتصرنا بانسحابنا لأننها فوتنا على الأعداء فرصة القيام بعمل عسكري كبير موجه ضدنا وتدميرنا. على الرغم من أن محللي الخطابات النفسية الأميركان رصدوا – آنذاك- "نبرة الخوف" المرتفعة في خطاب بشار الأسد.
كما دأب مناصرون للنظام السوري على الخروج إلى الساحات العامة للاحتفال بعد كل موجة هجمات صاروخية، أميركية أو دولية، تتعرض لها المواقع العسكرية والمطارات التابعة للنظام، وذلك بعد استخدامه للأسلحة الكيماوية ضد السوريين في عدة مناطق من سوريا، دأب المؤيدون على الاحتفال في الشوارع لأن تلك الهجمات لم تنل من مقام الرئاسة وقصر الرئيس، الأمر الذي يستدعي الاحتفال، فالرئيس بخير والنظام سالم وهذا نصر بحد ذاته. حصل هذا الأمر على الأقل مرتين: عندما استخدم بشار الأسد الأسلحة الكيماوية في خان شيخون في 4 نيسان عام 2017، وفي دوما مطلع نيسان عام 2018.
وفي عام 2020 أعلن بشار الأسد انتصاره من حلب، و"الكل يبارك للكل" كما قال آنذاك، على الرغم من أنه يعرف تماما أن سوريا مقسمة إلى أربع سلطات أمر واقع (الشمال السوري، الشمال الشرقي، مناطق نفوذ الجيش الوطني، ومناطق النظام)، وأن نحو ثلث الأراضي السورية خارج سيطرته، كما أن هناك جيشين أجنبيين موجودين على الرغم من أنفه داخل الأراضي السورية. دون أن نذكر القصف الإسرائيلي شبه اليومي على العاصمة دمشق ومناطق أخرى تكاد تغطي كامل الجغرافية السورية، ودون أن ننسى معاناة ملايين النازحين والمهجرين.
آل الأسد وحسن نصر الله يأخذون بنصيحة شوبنهاور بأن على المرء أن يعلن "بمكر" انتصاره الدائم رغم الهزائم التي تعرض لها
أما أكثر شخص في العالم مغرم بخطابات النصر في القرن الواحد والعشرين فهو حسن نصر الله، الذي أعلن وسيعلن في المستقبل، وفي كل مناسبة أو مماحكة أو معركة أو عملية عسكرية أو سياسية أو خطوة يقوم بها أنه المنتصر. عشرات المواجهات والعمليات العسكرية سواء مع إسرائيل أو مع اللبنانيين انتهت بانتصاره، على الرغم من أن خوفه الشخصي على حياته دفعه إلى العيش في مكان سري منذ عدة سنوات، ولا يخطب بشخصه وإنما عبر الشاشات التلفزيونية، وعلى الرغم من أن لبنان يعيش أزمات ضخمة تهدد وجوده واستمراره على قيد الحياة.
ويبدو أن آل الأسد وحسن نصر الله يأخذون بنصيحة شوبنهاور بأن على المرء أن يعلن "بمكر" انتصاره الدائم رغم الهزائم التي تعرض لها، لأنه ليس لديه ما يخسره في حال لجوئه إلى هذه الحيلة، الأمر يتطلب فقط تلاعبا جيدا بالألفاظ وكمية معقولة من الجراءة والصوت الجهوري. الأمر الوحيد الذي يطلبه شوبنهاور هو ألا تخطب خطاب النصر إلا وأنت ضامن أن من يسمعك هم جمهور من "البلداء" أو "الخجولين" الذين يوافقون على كل شيء يسمعونه.
بقي أن نذكر أنه حيلة الاحتفال بالنصر في زمن الهزائم تعود إلى أيام الفراعنة، حيث كانوا يشنون حملات عسكرية بعيدة، قد تستغرق شهورا من السير، أي أنها بعيدة عن السكان المحليين، ولذلك فإن بعض الفراعنة كان يعلن، عند عودته، أنه انتصر، حتى لو تعرض لهزيمة وقدم تنازلات، المهم أن الناس العاديين يجب ألا يعرفوا بالهزيمة، حتى لا يتعرض الفرعون لموجة شعبية من السخط وخيبة الأمل تزعزع ثقة الناس به، وقد تدفع الطامعين بعرشه لينالوا منه.