فنُّ حصد النِعَم من حقلِ المآسي السورية

2023.03.08 | 07:12 دمشق

فنُّ حصد النِعَم من حقلِ المآسي السورية
+A
حجم الخط
-A

متّفقٌ في الأروقة السياسية العالمية على أنه ظاهرة استبدادية فريدة من نوعها، بحكم أنه لا يضع خطاً أحمر بين الأخلاق وما دونها في الوسيلة التي يمتطي ظهرها، لإطلاق ألاعيبه "المفضوحة" بهدف حرف الأبصار عن النقطة التي ابتدأ منها الشعب ثوراته العديدة ضدّه، هو الذي حرص، والحديث عن نظام الأسد، على خلق ثقافة (الشيع) بدل ثقافة (المواطنة)، ليبقى قوياً ومستمراً مع معاناة السوريين. وفي الحقيقة تاريخه في مرحلة التسلق البراغماتي يثير العجب، فهو ما انفك يبذر الشر في كلّ مكان، تدعمه جوقة إعلامية تبخّ سمومها، وتُسلّط الأضواء عليه كما لو أنه نبيّ الأوجاع السورية ومنقذها، كما حصل مؤخراً بعد الزلزال الكارثي الذي ضرب البلاد، إذ ورغم تخبطه في قعر حفرة سحيقة، لم يتوانَ بشار الأسد عن التسلق على ضحايا الكارثة بحثاً عن طوق نجاة. لنكن صادقين تماماً ونعترف أنّ حافته الآن، وقياساً بالسنوات الأخيرة، آمنة نسبياً، وربما ستقيه حتمية السقوط ثم الاختناق بمخرجات سياسته الفاسدة، الفاشلة.  

وعليه يعتقد بشار الأسد "واهماً" أنّ إثارة هكذا ألاعيب سياسية صبيانية ليس أكثر من مجرد خدع بصرية مثيرة، بلا تبعات كارثية عليه، غايتها تضخيم المفتعل وتقزيم المصيري، لذا لم يبدِ أيّ اهتمام يُذكر في الأيام الأولى لوقوع الزلزال، في وقتٍ كانت فيه جهود "جوقة التطبيل" خاصته منصبّة نحو استثمار الكارثة، تتحدث عن ضرورة رفع العقوبات أكثر من الاهتمام بضحايا الزلزال. وعلى سبيل تسويق المكائد المفبركة وإرجاء تحديات واحتقانات الراهن، ووفق ما نشرته وسائل إعلام رسمية وصحفيون موالون ركّزت عبارات الأسد في المناطق المنكوبة على "الوطنية" من جهة وعلى "الحالة الإنسانية غير الموجودة لدى الغرب" من جهة أخرى!.

نظام الأسد استغل تدفُّق الأموال والمساعدات إلى مناطق سيطرته لسرقتها، وتدعيم خزينته المالية، وتعزيز سلطته

على صعيد موازٍ، أكد إيميل حكيم، محلل شؤون الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن، أنّ الزلزال كان "نعمة" بالنسبة لبشار الأسد يحاول التشبث بها، فلا أحد يريد إدارة هذه الفوضى. يأتي الحظ ليخدمه بطريقة مدهشة، فيصطاد من خلال الكارثة عصفورين بحجر واحد. أولاً عندما استغلها ليخرج من وضع "المنبوذ سياسياً"، وثانياً ليمارس عقاباً جماعياً على سكان مناطق المعارضة، ويذكرهم بأنّ الحل والربط لا يزال بيده، بعدما انتظرت الأمم المتحدة موافقة "طاغية دمشق" لدخول المساعدات عبر معبرَي باب السلامة والراعي، وهو مكسب سياسي للأسد الذي لطالما وصفه المجتمع الدولي بـ"مجرم حرب". لنتفق إذاً أنّ الكارثة أدت إلى تحريك المياه الراكدة في الملف السوري بعد تراجع أولويته على الصعيد العالمي، وولّدت لحظة سياسية تحمل في طياتها بعض الفرص لكسر حالة الجمود القائمة.

فممّا لا شكّ فيه أنّ نظام الأسد استغل تدفُّق الأموال والمساعدات إلى مناطق سيطرته لسرقتها، وتدعيم خزينته المالية، وتعزيز سلطته، في ظلّ غياب المرجعية الأخلاقية التي قد تدفعه لإيصال المساعدات إلى مستحقيها، أو استعمالها على وجهها الصحيح. فعلياً، وعبر تاريخه الأسود، اعتاش نظام الأسد على توظيف آلام السوريين بهدف الخروج من مستنقع أزماته، وتجميل وجهه عربياً وإقليمياً ودولياً تحت ستار مسميات عدّة، ليس التضامن الإنساني أبرزها. هل نجحت الخطة؟ بالتأكيد نجحت. إذ سارع قادة وملوك دول عربية إلى التواصل مع الأسد وإبداء تضامنهم مع شعبٍ أنهكته حرب ضروس، قبل أن تحط طائرات المساعدات تباعاً في مطارات دمشق وحلب واللاذقية. على هذا يبدو جلياً أنّ لدى الأسد فرصة ذهبية لاستثمار هذه المأساة وتحويلها إلى قناة مفتوحة أمام مشاركة دبلوماسية مستدامة.

ومن ملامح هذا "الاستثمار الناعم" أنْ تداولت صفحات موالية صوراً تظهر كلاً من "حافظ بشار الأسد"، وشقيقته "زين"، وأيضاً "شمس دريد الأسد"، وسط مزاعم عملهم على إغاثة المتضررين من الزلزال، سبقهم في ذلك عدّة شخصيات سياسية وعسكرية وفنية ضمن سياق سياسة "قنص المكاسب الدموية السورية" الشهيرة. ولا يخفى على أحد أنّ مثل هذه الشخصيات تتعمد الظهور لتلميع صورة "العائلة" فوق أنقاض المأساة المدمرة، يدعمها تسويق مسعور لمؤسسات يُعرف عنها الفساد والنهب، منها "السورية للتنمية" و"العرين" و"الهلال الأحمر السوري"، إذ لم تبقَ شخصية تُعرف بوقوفها إلى جانب النظام حتى ظهرت بمظهر المنقذ، يقيناً منها أنّ الزلزال الذي دمر مناطق المعارضة أعطى الأسد مكسباً تكتيكياً لا يُقدّر بثمن، لدرجة أنّ أنصاره تداولوا رسائل عبر الانترنت تقول "إنّ التدخل الإلهي أنقذ الأسد من كلفة البراميل المتفجرة".

بطبيعة الحال تبقى إشكالية تسييس الملف الإنساني السوري عرضة للمساومات السياسية التي يُعدّ الأسد طرفاً فاعلاً فيها، وهو ما سيترتّب عنه تداعيات سلبية خطيرة، متمثلة في إبقاء المنطقة رهينة لمزاجيته وعنجهيته، ما يعني زيادة في معاناة السوريين القاطنين في مناطق سيطرته. في المقابل هزّات ارتدادية عديدة بمقياس الأخلاق ضربت نظام الأسد و"شبيحته" في العمق، بعدما تمّ توثيق شهادات من داخل سوريا تؤكد سرقة المساعدات الإنسانية التي وصلت من عدّة أقطار عربية للمتضررين من الزلزال، وهو ليس بالأمر الجديد الجلل، إذ لطالما تعرضت المساعدات الإنسانية للنهب، وهو ما أكده سابقاً مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "CSIS" في تقرير نشره العام الماضي. أكد تورط مرتزقة النظام السوري بسرقة 96% من المساعدات الإنسانية الأممية خلال الحرب. واليوم تُوظف ورقة المساعدات الإنسانية والكارثة المستجدّة لابتزاز القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة، بعدما شهدت الكارثة زخماً واهتماماً دوليَّين كبيرين، لتوسيع هامش مناورات الأسد وانتزاع ما يتيسر من المكاسب لصالحه.

لم يجد النظام "الكابوسي" مانعاً أخلاقياً من المعالجة المبتذلة لتقرّحات المأساة الملتهبة، إذ يكشف الآن خبثه أكثر وأكثـر بينما يسعى إلى تسجيل الأهداف الذهبية في مرمى السوريين

هذه التطورات المتسارعة، ومنذ البداية، فتحت باب الحديث عن انتهازية نظام الأسد في استثمار الكارثة لكسر العزلة الدولية، عبر المطالبة برفع العقوبات والتحكم الكامل بدخول المساعدات الإنسانية إلى سوريا، ثم دفع محاولات إعادة تأهيله إقليمياً ودولياً عبر إيجاد بعض الحلول الجزئية للأزمة السورية. وحتى الآن، يبدو أنّ النظام نفسه، ومن خلال الطريقة التي أدار بها أزمة الزلزال، قد تمكَّن بالفعل من تحقيق مكاسب سياسية عديدة في فترة زمنية قصيرة، بعدما طرح نفسه لاعباً سياسياً مرناً، لديه القابلية لتقديم تنازلات للمجتمع الدولي مقابل حوافز سياسية تُخرِجه من عزلته الطويلة. فهو لا شك يتقن فنّ الهروب إلى الخلف من تحديات المستقبل، عبر سياسة العبث المناوراتي لتغدو مصلحته الشخصية وحدها سيدة الموقف.

وبينما مثَّلت كارثة شباط، والدمار الهائل الذي نتج عنها، منعطفاً مفصلياً في التعاطي الإقليمي والدولي مع الحالة السورية، لم يجد النظام "الكابوسي" مانعاً أخلاقياً من المعالجة المبتذلة لتقرّحات المأساة الملتهبة، إذ يكشف الآن خبثه أكثر وأكثـر بينما يسعى إلى تسجيل الأهداف الذهبية في مرمى السوريين أنفسهم، ومن ثم خلط الأوراق للتعمية على تاريخ جرائمه الأسود. وفي الوقت الذي رأينا فيه دولاً أعلنت الحداد على ضحايا الزلزال وأخرى نكّست الأعلام، إلا "سوريا الأسد" لم تُعلن أيّ حداد أو تنكيس، ولم يُصدر بيان تعزية واحد، بينما تبدو زيارات الأسد المكوكية إلى الخارج لتجميل وجهه القبيح ذي الابتسامة الصفراء، أيضاً يبدو هوس التسوق على مواقع "غوتشي" و"شانيل" بالنسبة لزوجته، أهم بكثير من ترميم جروح "فلاحِيّ" البلاد التعساء.