icon
التغطية الحية

فلسفة الزمن في روايات أدب السجون

2023.06.05 | 14:05 دمشق

أدب
+A
حجم الخط
-A

يعدُّ الفضاء الزماني عنصراً أساسياً في البناء الروائي، وهو ليس فضاءً مطلقاً أو مجرَّداً، بل هو فضاء لا يمكن أن يُدرك إلا من خلال اللغة، فاللغة هي التي تعطي للزمان في الرواية حيِّزاً حقيقياً يستطيع من خلاله استيعاب الأحداث الروائية.

ولأنَّنا نتحدَّث عن الزمان في روايات أدب السجون فنحن نتحدَّث عن زمان خاص لا ينطبق على الزمن الفيزيائي الذي نعرفه في حياتنا الطبيعية، وذلك من منحيين؛ المنحى الأول هو أنَّ الزمن الروائي، بشكل عام، له تقنيات خاصة تقسمه إلى قسمين وهما؛ زمن الحكاية وزمن الخطاب، وتظهر براعة الكاتب من خلال إبراز جدلية العلاقة بين هذين الزمنين، أمَّا المنحى الثاني فهو في تخصيص الحديث عن روايات أدب السجون، إذ يبرز واضحاً الزمن النفسي الذي يتقاطع فيه الفضاء الزماني مع الفضاء المكاني مع حَدَث الاعتقال، ولا بدَّ من الإشارة إلى عدم المقدرة على الفصل بين الفضاءين الزماني والمكاني في أثناء عملية التلقي التي تتشابك فيها عناصر الرواية، "فالفضاء الزماني والمكاني يترابطان ويشكِّلان أحياناً فضاءً مميزاً ينعكس على طبائع الشخوص الذين يحتويهم"[1]، ففي السجن يتطاول الزمن ويصبح رتيباً ومتشابهاً، ويتطابق في امتداده مع قضبان السجن الممتدة والمتوازية من أسفل أرض الزنزانة إلى أعلاها، وهذا كله سينعكس بلا ريب على المعتقَل سلوكاً وشعوراً.

ويمكننا أن نقسِّم الزمنَ في روايات أدب السجون إلى ثلاثة أقسام؛ الزمن الأول هو زمن الانتظار والترقُّب وغالباً ما يكون في الزنزانة أو غرفة السجن، ويمكن أن يعدّ أقل الأزمنة ضغطاً على السجين من حيث النتائج والآثار، وفي هذا الزمن يستطيع المعتقَل أن يسترجع ذكريات الماضي "تعويضاً عن القيم المفقودة في الواقع المعاصر"[2]، أو أن يتجاوز الزمن الحاضر إلى المستقبل من خلال مجموعة من الأحلام والأمنيات التي يرغب في تنفيذها إذا أتيح له يوماً ما الخروج من السجن، وتتحدَّث الكاتبة هنادي زحلوط في مذكراتها (إلى ابنتي) عن تجربتها في السجن فتقول: "يغدو الوقت كله للكلام، والنوم لحلمنا الأوحد بالحرية، الصغرى والكبرى"[3]، وهكذا يصبح الوقت الحاضر مجرد صلة الوصل بين الماضي والمستقبل. أمَّا الزمن الثاني فهو زمن الخوف والذعر، ويتعلَّق هذا الزمن بالفترة الممتدة ما بين زنزانة السجن وما بين أقبية التعذيب، حيث يتملَّك المعتقَل في هذا الزمن شعور هائل بالاضمحلال أمام سطوة الزمن القاسية والتي تحمل سيناريوهات متعددة للتعذيب الذي سيُلحق بالجسد والروح معاً، وينتهي هذا الزمن بالتلاشي تماماً عند الوصول إلى الزمن الثالث وهو زمن التعذيب حيث ينفلت الزمن من أي معنى وجودي، وينفصل الوعي عن إدراك أي معنى للزمن، وتصبح الرغبة الوحيدة هي انقطاع الزمن وتوقفه إلى الأبد.

قد يتصدَّى بعض المعتقَلين داخل السجن لهيمنة الزمن وقسوته من خلال محاولات تشبه الصدمات الكهربائية التي يتعرض لها القلب المتوقف أملاً بعودته إلى نبض الحياة

ويعبِّر معبد الحسون في روايته (قبل حلول الظلام) عن تحوُّلات الزمن داخل السجن، فيقول: "تمرَّ الأسابيع الثلاثة الأولى، بعدها تتحوَّل الفيزيائية والكيميائية والجينية لديه تحوُّلاً غير مدرك، إذ تتحوَّل بنيته النفسية تحوُّلاً جذرياً، ليصبح كائناً مفتوح النفس والعقل والجسد على كلِّ الاحتمالات المتوحِّشة المتخيَّلة"[4]، ففي المرحلة الأولى تسيطر على المعتقَل الصدمة، وتبدأ هذه المرحلة بالتحلُّل رويداً رويداً مع مرور الزمن المتثاقل حاملة معها الانكسار والقهر وفقدان الأمل والخيبة وتلاشي الأحلام، والاقتناع التام بانعدام أهمية الحياة أمام رغبة الطغاة الجامحة بالتعذيب والاستبداد واستلاب الحريات، ويتطابق هذا الاقتناع الذي يصل إلى المعتقَل نتيجة قسوة الزمن داخل السجن المصاحب بالتعذيب الوحشي وغير الإنساني مع غايات السلطات المجرمة، حيث تصبح الرغبة الوحيدة والحقيقة مع امتداد سنوات السجن هي التخلُّص من الاعتقال فحسب، والعودة  للعيش ضمن سلسلة الزمن الرتيب خارج السجن.

وقد يتصدَّى بعض المعتقَلين داخل السجن لهيمنة الزمن وقسوته من خلال محاولات تشبه الصدمات الكهربائية التي يتعرض لها القلب المتوقف أملاً بعودته إلى نبض الحياة، فيسعون إلى استحضار معارفهم وتناقلها فيما بينهم، ممَّا يساعد بعض الشيء "على قتل الوقت الطويل، وزحزحة ذلك الركود السكوني، الذي يشبه الموت داخل السجن، حيث الفراغ واللامعنى هما سيدا الموقف"[5]، ويمكن أن تكون الذكريات هي المتنفَّس الوحيد الذي يستطيع من خلاله المعتقَل أن يتخلَّص من وطأة الزمن وقسوته، وذلك من خلال استحضار الأحداث والأحباب ولو للحظات سريعة تخترق كثافة الزمن داخل السجن، تقول ابتسام تريسي عن أهمية الذكريات داخل السجن "لا معنى للزمن بعيداً عن العاطفة، العاطفة هي التي تشعل الذاكرة، وتخلق زمناً خاصاً لا يعود إلى الوراء، يبقى في مكانه والناس يأتون إليه"[6].

فالزمن في السجن سرمدي لا نهاية له، إنه يشبه الموت إن لم يكن هو الموت بحدِّ ذاته، لأنَّه زمن غير مدرك وغير محدود النهاية، وفي حال تحددت النهاية فإنَّ قلق الحرية يصاحب ساعات السجن الأخيرة حتَّى يحولها إلى كوابيس متلاحقة. إنَّ الفضاء الزماني الذي يتمُّ تقديمه في روايات أدب السجون زمن يختزل سنوات طويلة من القهر والذل، زمن يعيد الإنسان إلى بدائيته الأولى حين كان يحسب أيامه بإشارات ونقاط يرسمها على جدران الكهوف، ولن يستطيع أي روائي مهما بلغ من المهارة في نقل ذلك الفضاء بأمانة إلى المتلقي أن يعبِّر عن القيمة المصاحبة لهذا الزمن المنفلت من سطوة اللغة وبلاغتها.

 


[1] عبد الرحمن منيف، الكاتب والمنفى، القاهرة: دار التنوير للطباعة والنشر، 2020م، ص90.
[2] مراد عبد الرحمن مبروك، بناء الزمن في الرواية المعاصرة، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م، ص159.
[3] هنادي زحلوط، إلى ابنتي، دمشق: بيت المواطن للنشر والتوزيع، مبادرة من أجل سورية (باريس)، الطبعة الأولى، 2014م، ص33.
[4] معبد الحسون، قبل حلول الظلام/ حين يصير الدم ماء، غازي عينتاب، حلب: نون 4 للنشر والطبع والتوزيع، 2019م، ص27.
[5] المصدر السابق، ص149.
[6] ابتسام تريسي، مدن اليمام، القاهرة: مكتبة الدار العربية للكتاب، الطبعة الأولى، 2014م، ص202.