فرار المجانين وحبس العقلاء

2024.05.22 | 06:22 دمشق

آخر تحديث: 22.05.2024 | 06:22 دمشق

3544444444444444444444444
+A
حجم الخط
-A

"كان راديو أريسون توبوليس، يذيع الخبر التالي في نشرته المسائية: "ألو.. ألو.. السادة المستمعمون الكرام حسب ما وصلنا من أخبار فإن مجموعة كبيرة من المجانين يفوق عددهم الخمسين قد فرّوا من أحد مشافي الأمراض العقلية وانتشروا داخل المدينة.. وكما تقول الأخبار الواردة إلينا تباعاً، فإن قوات الجيش والشرطة تحاول المستحيل للقبض على هؤلاء المجانين".

اقتبست الفقرة السابقة من قصة المبدع عزيز نيسين "المجانين الهاربون"، لعلها تكون حاملة لفكرتي الأساسية هنا حول الجنون السياسي المستمر في الحالة السورية.

فالمجانين في قصة نيسين يسيطرون على الحكم في مدينة أريسون توبوليس، أما في سوريا فالمجانين يسيطرون على مقاليد الحكم منذ لحظة إعلان حكم الطوارئ. حيث أتاح القانون لكل مجنون أن يعتقل أي صاحب رأي.

وحين بدأت الثورة السورية في منتصف آذار عام 2011 وبدلاً من أن يسيطر العقل والحوار والإصلاح سيطر الجنون السياسي العسكري على المشهد، وتمّ اعتقال أطفال درعا وتعذيبهم، وحين طالب الأهالي بالإفراج عن أولادهم تمّ تهديدهم وإهانتهم وإذلالهم.

سيطر المجانين على القرار السوري، وانتشر الجنون في البلد متسعاً رويداً رويداً، وكان مجنون المهاجرين قد خطب يومها في مجلس الشعب وبدلاً من العقل والمنطق والمسؤولية التي يفترض أن يتمتع بها الرئيس، ضحك ضحكته الهستيرية، وصفّق له كل مجانين البرلمان السوري وأحدهم هناك قال له: "سوريا قليلة عليك يا سيادة الرئيس أنت لازم تكون قائد العالم".

مجانين آخرون لكن هذه المرة بهيئة معارضة اقترحوا المواجهة المسلحة مع مجانين الجيش والعسكر، وحالهم مثل حال مراهق أراد مواجهة الدبابة بالعصا.. مراهق فقد عقله نهائياً وحين نصحه بعض العقلاء بالابتعاد عن المواجهة العسكرية مع جيش النظام وشبيحته، ردّ عليهم جيش من مرتزقة التحريض في عموم وسائل التواصل الاجتماعي. وضاع الحابل بالنابل ولم نعد نعرف من هو الثوري ومن هو الثورجي، من هو المرتزق ومن هو الشبيح!.

مرحلة الأسد أو نحرق البلد

في مرحلة الأسد أو نحرق البلد، ذلك الشعار الفاشي، كنت أسكن في صحنايا وأسافر يومياً إلى عملي في صحيفة تشرين، في هذا الطريق نشر النظام أكثر من سبعة حواجز تابعة لقوى عسكرية وأمنية، وعلى كل حاجز كان هناك مجانين يحملون البنادق، يطلقون الشتائم العنصرية والطائفية على الناس. وشعارهم "الأسد أو نحرق البلد" تمت كتابته على جدران الحواجز التي بنيت على عجل. أذكر يومها أني كنت في أحد السرافيس وصادف أن ركبت معنا امرأة فقدت عقلها بالكامل، كانت تهذي بجمل غير مترابطة، لكنها متتابعة، وربما هي تحكي قصتها وتاريخ أزمتها العقلية. كانت تلك المرأة تستبق الزمان في تلك الأيام وتلخص حالة سوريا ومن قادها لهذا المصير.

كان مجنون المهاجرين قد خطب يومها في مجلس الشعب وبدلاً من العقل والمنطق والمسؤولية التي يفترض أن يتمتع بها الرئيس، ضحك ضحكته الهستيرية، وصفّق له كل مجانين البرلمان السوري.

بدها عقل يا عزيز

في مدينتنا سلمية حيث عشت فيها حتى عمر 36 عاماً يروي السكان هناك حكاية ذلك الفقير "عزيز" صاحب البنية العضلية القوية والذي كان يعمل عتالاً في ستينيات القرن الماضي، وحدث أن تمّ سرقة صندوق المال من السرايا الحكومية، وكان مصنوعاً من الحديد وثقيل بحيث لايمكن لشخص واحد أن يحمله مهما كان قوي البنية. اعتقد القاضي يومها أنه ربما يكون "عزيز" قد سرقه أو ساعد في حمله. وحين استجوبه القاضي بهذا الاتهام، رد عليه بجملة ستصبح شهيرة لاحقاً: "بدها عقل يا سيدي".والغاية التي أراد عزيز إيصالها ببساطة هي: أن القاضي لو فكّر في الأمر قليلاً لعرف أن الصندوق يحتاج إلى عدة رجال لحمله دفعة واحدة.

نعم بدها عقل، فكل من حرّض على مواجهة النظام العسكرية قال لهم بعض العقلاء، بدها عقل يا سادة، إلى أين أنتم ذاهبون؟ منذ تلك الأيام انتشرت لغة المجانين في السياسة بحجة معارضة النظام، فقبض بعضهم وقتل آخرون ومات آلاف في السجون وغرق مئات في البحر المتوسط بحثاً عن ملاذات آمنة.

واستمرت الكارثة السورية، مجنون حاكم يحرّض جيشه وشبيحته على قتل الناس، وفي المقابل وبدلاً من أن تنتشر لغة السياسة، انتشرت لغة العسكر الجنونية. يومها قال لي أحد سماسرة العقارات، أنا لو كان معي سلاح كنت قتلت كل المتظاهرين. وكانت خلصت الأزمة.

في الكارثة السورية المستمرة حتى تاريخه اجتمع كل أعداء المعرفة والجهل، أعداء السلام وحقوق الإنسان والحرية- بالتأكيد النظام هو أولهم- ضد فكرة الحرية ومحتواها.

مرحلة خلصت الأزمة

في تلك الأيام انتشرت عبارة "خلصت الأزمة" وكان قد تم نشرها عمداً في سوريا، لا شيء في سوريا حدث ويحدث رسمياً دون عمد وقصدية. فمطبخ الحاكم الرئاسي استولى عليه الروس والإيرانيون. وأحد ما من المستشارين قال جملة"خلصت الأزمة" فتلقفها الغاضبون في الشارع بسخرية وصاروا يرددونها كنكتة حتى الآن. هي حقيقة خلصت، لكنها البلد وليست الأزمة.

في قصة عزيز نيسين التي استشهد بها، سيطر المجانين على إدارة المشفى وارتدوا لباس المديرين وصاروا هم القادة، بينما تمّ حبس كل الأطباء والممرضين في أقسام المرضى. هذا ما حصل ويحصل في المشهد السوري، ليس النظام فقط من اعتقل وقتل وهجرّ العقلاء إنما أيضاً كل المتطرفين الإسلاميين وليست داعش سوى نموذج منهم.. مجانين تقاسموا السلطة على الأرض وقتلوا أية إمكانية لأي حل سياسي سوري سوري. وضمن جنون تلك المرحلة أذكر أن أحد عقلاء سوريا المبدعين نشر نصاً في فضاء الفيس بوك بعنوان "ليتها لم تكن" وقامت قيامة الإسلاميين والعديد من اليساريين ومن معهم عليه. ولم يبقَ سوى أن يحاكموه بتهمة وهن نفسية الأمة، والطلب من الرائد هشام اعتقاله ليكون عبرة لمن يعتبر.

بدكم حرية!

في الكارثة السورية المستمرة حتى تاريخه اجتمع كل أعداء المعرفة والجهل، أعداء السلام وحقوق الإنسان والحرية- بالتأكيد النظام هو أولهم- ضد فكرة الحرية ومحتواها. فكل هؤلاء قتلوا معاً شعار السوريين الأول الاحتجاجي"سوريا بدها حرية" قتل الحرية كل من أطلق الرصاص على المتظاهرين ومن خنق البشر بالسلاح الكيماوي، وكل من رفع راية أخرى غير راية الحرية هو أيضاً كان ومازال عدو الحرية. للأمانة معسكر الجهل والحقد على السوريين بدأ من قصر المهاجرين وانتشر في عموم الفصائل المتطرفة التي ارتهنت للمال والخارج وللدول المتدخلة في المشهد السوري. وحين استيقظ ذلك العاقل الفقير عزيز وقال للجميع "بدها عقل" أخرسوه وقتلوه معنوياً وجسدياً ليس فقط في سجون النظام إنما في كل السجون السورية التي تمّ إنشاؤها لقتل حلم السوريين ببلد حرّ مستقل فيه دولة لكل السوريين.

المجانين الهاربون

لكي يتمّ تحرير الأطباء والعقلاء في قصة "المجانين الهاربون" لنيسين لابد من تدمير القصة وإعادة تركيبها من جديد، بحيث يسيطر العقل والعقلاء على الإدارة ويتم علاج المجانين.

وكل هذا الأمر في سوريا ممكن تحقيقه، حين يتخلى الجميع عن جنونهم السياسي ولا يستخدون لغة استعدائية ضدّ المجتمع الدولي.