"فاكس الجينوسايد" المسافة بين القلب والفعل 2

2023.09.07 | 06:26 دمشق

"فاكس الجينوسايد" المسافة بين القلب والفعل 2
+A
حجم الخط
-A

جميعنا يذكر أنه منذ بداية الثورة السورية، كان تركيز قوات أمن الأسد منصباً على التخلص من الناشطين السياسيين السلميين كأولوية. اعتقلت الآلاف وقتلت كثيرا منهم تحت التعذيب، وأخفت آخرين. ومن لم تصله آلة الموت، فقد تكفلت أجهزة إعلام الأسد بقتله معنوياً وتشويه صورته، كلّما استطاعت. كان يعني كثيرا لنظام الأسد، ألا يوجد أي بديل معتدل ممكن أن يتوافق السوريون عليه، وقد يحوز القبول الدولي، لو كانت الظروف مواتية. يتذكر الجنرال الكندي رومي دالير الساعات الأولى من مذبحة رواندا: "في غضون ساعات قليلة، كان الحرس الرئاسي قد نفذ خطة جيدة التنظيم بشكل واضح. بحلول ظهر يوم 7 أبريل (اليوم الأول للمجزرة)، كانت القيادة السياسية المعتدلة في رواندا قد ماتت. أو أخفيت قسراً، وضاعت تماماً أي إمكانية لتشكيل حكومة معتدلة في المستقبل".

خلال فترة ولايته، ضغط كولين كيتنغ سفير نيوزيلندا لدى الأمم المتحدة (تولى منصب رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة خلال أبريل 1994) بشدة من أجل رد أممي، وجادل في وقت مبكر لزيادة قوة بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا، كما حثَّ مجلس الأمن على الإعلان عن حدوث "إبادة جماعية". لكن كل جهوده ذهبت عبثاً، فقد نجح الأعضاء الدائمون في المجلس بقمع أي مبادرة لوقف المذبحة. في جلسة مجلس الأمن يوم 20 نيسان/أبريل سيتساءل المندوب النيجيري في كلمته "بلادي لا تستطيع أن تفهم كيف يمكن للغرب أن يفكر في تعزيز قوة الأمم المتحدة للحماية في البوسنة، ويقرر في الوقت نفسه انسحاب بعثة تقديم المساعدة إلى رواندا، حيث الإبادة مستمرة". هنا تظهر تماماً الفجوة الواسعة بين القلب (الأخلاق) وما تمليه، وبين الفعل الذي يمكن أن يكون في مكان مغاير بالمطلق.

مهما كانت الأمور صريحة وفجّة في وضوحها، فإن المجتمع الدولي لن يتحرك عندما لا تكون له مصلحة في التحرك. في شهادتها أمام محققي المحكمة الجنائية الدولية لأجل رواندا عام 2003، أفادت "جينيفيف" زوجة جان بيير، مخبر قوات حفظ السلام الذي قُتل خلال المجازر، بأن زوجها أخبرها أواخر عام 1993 أن الحزب الحاكم "يخطط لارتكاب مذابح ضد الناس"، وأنه إذا بقي عضواً في الحزب فسوف يتعين عليه البدء "بقتلي أنا ووالدته"، ونظراً لأن زوجته وأمه تنتميان إلى التوتسي، فقد فهمت جينيفيف أن هذا التلميح يعني أن "المذابح ستكون ضد السكان التوتسي". كان كل شيء يسير بوضوح نحو الفجيعة في رواندا. والمجزرة تقترب بإيقاع يسمعه كل المحيط. لكن أي بلد هو رواندا، القابعة في وسط شرقي إفريقيا، ليستنفر العالم من أجلها؟

ارتأت الإدارة الأميركية أن الأمر متروك للفصائل الرواندية المتنافسة "لتحمُّل مسؤولياتها" بموجب اتفاقيات "أروشا" للسلام! وأكثر من ذلك، ألمحت واشنطن إلى أن الفشل في تنفيذ الاتفاقات قد يؤدي إلى انسحاب بعثة الأمم المتحدة من رواندا بالكامل

تظهر وثائق وزارة الخارجية الأميركية المُفرج عنها بموجب قانون حرية المعلومات، أن المسؤولين الأممين أطلَعوا الولايات المتحدة وبلجيكا (المستعمر السابق لرواندا) وفرنسا على "الأزمة الناشئة" في رواندا، وعلى معلومات الجنرال دالير والمخبر جان بيير، وعلى خطة الإبادة. ومع ذلك لم يكن هناك أي حماس في إدارة كلينتون لخوض أي مخاطر في رواندا في أعقاب "كارثة الصومال" وخسارة الجنود الأميركيين ضمن قوات حفظ السلام هناك. ارتأت الإدارة الأميركية أن الأمر متروك للفصائل الرواندية المتنافسة "لتحمُّل مسؤولياتها" بموجب اتفاقيات "أروشا" للسلام! وأكثر من ذلك، ألمحت واشنطن إلى أن الفشل في تنفيذ الاتفاقات قد يؤدي إلى انسحاب بعثة الأمم المتحدة من رواندا بالكامل.

كل ما قامت به الولايات المتحدة مع بدء المجزرة، أن وارن كريستوفر وزير الخارجية أمر بتشكيل "مجموعة عمل على مدار 24 ساعة"، أنهت عملها خلال أسبوع، بعد إجلاء المواطنين الأميركيين من رواندا، وإغلاق السفارة الأميركية في العاصمة كيغالي. وفي غضون عشرة أيام، سيكون كل المسؤولين والمواطنين الغربيين تقريباً قد تركوا رواندا لمصيرها. في 21 نيسان/أبريل 1994، قرر مجلس الأمن بناء على اقتراح المندوب الأميركي تقليص وسحب معظم جنود قوات حفظ السلام والإبقاء فقط على 270 منهم بقيادة الجنرال دالير. المفارقة أن ممثل نظام الإبادة الجماعية حضر التصويت كعضو غير دائم. كان هذا التصويت بمنزلة إزالة آخر عائق أمام توسيع حكومته لنطاق المذبحة.

تُظهر وثيقة أميركية حملت الرقم 3، أفرج عنها بعد عشر سنوات من المجزرة، أنه خلال اجتماع، على العشاء، بين مسؤولي وزارة الدفاع الأميركية ووزير الخارجية السابق هنري كيسنجر، تداول المجتمعون تقييماً يفيد بأنه إذا فشلت الوساطات من أجل السلام "فسوف يترتب على ذلك حمام دم هائل، ومن المرجح أن تسحب الأمم المتحدة جميع قواتها، وعلى الولايات المتحدة ألا تتدخل في رواندا حتى استعادة السلام". لاحظوا كم يشي عرض هذه التوقعات المروعة في أثناء محادثة على العشاء، بأن دوائر صنع القرار الأميركية ترى الإبادة الجماعية، في بلد إفريقي لا مصلحة عليا لأميركا فيه، أمر مقبول، ولا طائل من اتخاذ أي إجراءات لمنع تلك الإبادة.

خلال عطلة نهاية الأسبوع نفسها، اجتمع مجلس الوزراء الرواندي المؤقت، المكوَّن من قادة الإبادة الجماعية، وقرر نقل وتوسيع برنامج الإبادة من العاصمة إلى باقي أجزاء البلاد، بعد أخذ العلم بأن المجتمع الدولي غير جاهز لاتخاذ أي إجراء للردع

الوثيقة رقم 4 تتضمن محتويات برقية وزارة الخارجية رقم (099440)، إلى بعثتها في الأمم المتحدة، بأنه "يجب إقناع المجتمع الدولي بإعطاء الأولوية القصوى للانسحاب الكامل والمنظم لجميع أفراد بعثة الأمم المتحدة، وعلينا معارضة أي جهد للحفاظ على وجود البعثة في رواندا". يوم 15 نيسان/ أبريل، كان السفير الرواندي حاضراً في جلسة مجلس الأمن التي مهدت لانسحاب قوات الأمم المتحدة، وقدم تقريراً عما دار بين المجتمعين إلى حكومته، الحكومة المؤقتة في رواندا. خلال عطلة نهاية الأسبوع نفسها، اجتمع مجلس الوزراء الرواندي المؤقت، المكوَّن من قادة الإبادة الجماعية، وقرر نقل وتوسيع برنامج الإبادة من العاصمة إلى باقي أجزاء البلاد، بعد أخذ العلم بأن المجتمع الدولي غير جاهز لاتخاذ أي إجراء للردع.

بالمقارنة يمكن بسهولة القول، رغم اختلاف الظروف والزمان والمكان، أن ما حدث في سوريا من إبادة جماعية ممنهجة، ما كانت لتحدث بتلك الطريقة المرعبة، وباستخدام كل الترسانة العسكرية للنظام، من رمي البراميل المتفجرة على المدنيين، وصولاً إلى استخدام صواريخ "سكود"، وانتهاء باستخدام الأسلحة الكيميائية والغازات السامة، لولا معرفة نظام الأسد، عبر الإشارات الدولية والإقليمية الواضحة، أنه لن يكون هناك موقف دولي رادع وحاسم. وهذا ما سآتي عليه لاحقاً. فالمجتمع الدولي لم يتعلم من الدرس القاسي للإبادة الجماعية في رواندا، ولا أعتقد أنه سيتعلم من الدرس الأقسى في سوريا.