غزة.. فضيحة الإعلام والأخلاق والسياسة

2024.03.27 | 06:01 دمشق

آخر تحديث: 27.03.2024 | 06:01 دمشق

غزة.. فضيحة الإعلام والأخلاق والسياسة
+A
حجم الخط
-A

لا أظن أن التاريخ عرف حدثاً مثل الحرب الدائرة على قطاع غزة قد مورس فيها كل هذا الكذب الصفيق، ليس من قبل الأطراف الفاعلة مباشرة فيه وحسب، بل ومن أطراف دولية كثيرة جداً، فما يجري في غزة ليس انتقاماً من "حماس"، ولا هو رد اعتبار لحكومة "نتنياهو" اليمينية، المحاصرة بعنصريتها وفضائحها، وخصوصاً بعد وقائع 7 أكتوبر 2023م، وليس لتحرير أسرى، إنه بتكثيف شديد محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، ولإفراغ ما يمكن من سكان غزة، وإعادتها تحت الاحتلال الإسرائيلي، لكن بعد إرغام معظم أهلها على مغادرتها.

هذا السيل الإعلامي الكبير الذي رافق ما يجري في غزة منذ 7 أكتوبر، كان بنسبته الساحقة مخادعاً، ويخفي الأهداف الحقيقية لعملية تعتبر بحق أكبر جريمة تمارس بكل هذا الفجور والعلنية، كأنما لم تعد قضية الشعب الفلسطيني قضية احتلال وإبادة وتهجير، وكأنما هي مجرد قضية أسرى ومساعدات، ومعاقبة مجموعة مسلحة.

هكذا وببساطة شديدة، طُمست قضية تهجير شعب من أرضه، وإحلال محتل محله إلى مسائل هامشية هي نتاج المشكلة الأم.

هي لعبة الإعلام المتواطئ، ولعبة الحرمان من كل شيء حتى يصبح القليل القليل حلماً، فيفرح الناس عندما يحصلون عليه كما لو أنه انتصار "إلهي".

عندما يستفحل الجوع والعطش وتصل الناس إلى حافة الموت، تصبح الحقوق والكرامة والحرية أقلّ أهمية، لا بل تصبح ترفاً يثير الحديث عنها السخرية، فما أهمية أن تطالب بالديمقراطية مثلاً لشخص يوشك على الموت جوعاً وعطشاً؟!

سيتحول ما تبقى من إعجابك إلى غضب عارم، عندما تدرك أن المخفي في مشروع القرار الأميركي هو جوهر المشروع، إذ يربط المشروع وقف إطلاق النار بقضية الأسرى

في الاجتماع الأخير لمجلس الأمن حول غزة، والذي تقدمت فيه أميركا بمشروع لوقف إطلاق نار "مستدام"، طغى الكلام الإنشائي الذي يدس السم في العسل، فللوهلة الأولى ستعجبك الدعوة إلى وقف إطلاق نار مستدام، وإدخال مساعدات، والتفكير بحل دولتين، وحماية المدنيين و..و.. الخ، وربما ستذهب إلى التفكير بظهور سياسة أميركية جديدة، لكنك قد تخفف قليلاً من إعجابك، عندما تذهب لتفسير المشروع على أنه جزء من الكذب الذي تفرضه الانتخابات الرئاسية الأميركية على دبلوماسيتها الراهنة، ومنها الحرب الدائرة في غزة، وسيتحول ما تبقى من إعجابك إلى غضب عارم، عندما تدرك أن المخفي في مشروع القرار الأميركي هو جوهر المشروع، إذ يربط المشروع وقف إطلاق النار بقضية الأسرى، وبالتالي فإن قرار مواصلة الحرب على ما تبقى من غزة، وتحديداً "رفح" التي اكتظت بما يزيد على مليون ونصف فلسطيني، سيصبح حقاً مشروعا لإسرائيل وبموافقة دولية، لكأنما تريد أميركا بمشروعها هذا أن تمنح الإسرائيليين شرعية وضع الفلسطينيين أمام خيارين: إما أن نأخذ ما نشاء، أو نواصل قتل المدنيين!

هذا المنطق في التعامل مع المدنيين، وقتلهم، وتهجيرهم وتدمير كل إمكانات عيشهم أصبح وفق الإعلام وسياسات منطق القوة، ومنطق الاستسلام المقابل له هو القاعدة، ويتم تصويره على أنه أهداف محقة يمكن للحرب أن تستهدفها، ولم يعد حقوقاً لا يجوز المساس بها، ولا يحق لأي طرف عسكري أو أي عمل عسكري، أن يخترق القوانين الدولية التي تحصنها وتحميها.

ما تمارسه اسرائيل بتواطؤ دولي وأميركي فاضح بحق الشعب الفلسطيني، يشبه إلى حد كبير ما حدث مع السوريين في معركتهم ضد نظام الفساد والطغيان في سوريا، لكأنما قضية الشعب السوري ليست قضية شعب يطالب بأبسط حقوقه في الإطاحة بسلطة عائلة تحكمه منذ خمسة وخمسين عاماً، وعلى نحو أدق بإزاحة طاغية، فاسد، أحمق يحكم سوريا منذ ما يقرب من ربع قرن، وتسبب بدمارها ودمار كل إمكاناتها، واستقدم احتلالات عدة اليها، ورغم كل الفظائع والجرائم والويلات التي جرّها، والتي تجعل من البداهة أن يكون مصيره هو المحاكمة، فقد تواطئ الكثيرون على زج سوريا، وشعبها، ومصيرها بلعبة لجان دستورية، وهيئات تفاوض وتدخلات دولية و..و.. الخ.

لماذا تُفرض هذه المعادلات المجنونة على شعوب هذه المنطقة، فيُدمر لبنان من أجل حزب الله المرتهن لإيران، وتُدمر سوريا من أجل حكم طاغية، وتهدم غزة ويجتمع مجلس الأمن لنقاش فكرة لا معقولة وتبدو أقرب للخيال، حول مقايضة حياة مليون ونصف فلسطيني مع كل ممتلكاتهم مقابل حياة ما يزيد على مئة أسير إسرائيلي، في الوقت الذي يعتقل فيه عشرات آلاف الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية؟؟!!

يُمكن تفسير ما سبق من قبل السياسيين الحصفاء، والذين يدّعون معرفتهم بكواليس السياسة  وألاعيبها، والذين يعتبرون التحدث عن الحق العاري  أحلاما واهمة، لكنهم بحصافتهم هذه إنما يرسخون بتعمّد منهجية ستقود البشرية الى ويلات مدمرة، ويقرّون باستسهال وتلقائية، بتحول العالم إلى غابة صراع متوحشة، لا حضور للقيم، والأخلاق، والحق فيها ومعيارها الوحيد هو: القوة.

سيبدو ما أقوله ساذجاً، لأن ما نراه من وحشية، وقتل، وكذب وتواطؤ أصبح بديهياً في علم السياسة، ومن ركائزها، لكن الغريب أن ضمائر هؤلاء الساسة الذين انغمسوا في لعبة الوحشية المنفلتة تصحو عندما يخرجون من اللعبة، أو يتم الاستغناء عنهم، ويتحدثون عن حقائق وحق سحقوه بمتعة عندما كانوا في خضم اللعبة؟!

لو كان في هذا العالم بقية من ضمير أو قيم، كان يكفي أن يُقال: إن شخصاً أخرق مثل بشار الأسد يحكم بالقوة العارية سوريا وشعبها منذ ربع قرن، لكي تشعر البشرية كلها بالعار!

في تصريح ل"كاملا هاريس"، نائبة الرئيس الأميركي حول غزة تقول وهي ترتدي قناعاً إنسانياً رحيماً: (لا طرق آمنة لخروج المدنيين الفلسطينيين من مدينة رفح في جنوب قطاع غزة)، لكأنما المشكلة ليست في احتلال عنصري، فاش، دمّر كامل قطاع غزة، وسيدمر ما تبقى منه وهي مدينة رفح، وليست في تجويع وتشريد مليوني فلسطيني، بل المشكلة في تأمين طرق أفضل لممارسة كل هذه الهمجية البشعة!

أي عار هذا!؟ أي عار في بقاء شخص أحمق لم يقدم لسوريا طوال سنوات حكمه التي قاربت الربع قرن إلا المصائب والخراب، لو كان في هذا العالم بقية من ضمير أو قيم، كان يكفي أن يُقال: إن شخصاً أخرق مثل بشار الأسد يحكم بالقوة العارية سوريا وشعبها منذ ربع قرن، لكي تشعر البشرية كلها بالعار!

أعرف أن ما أقوله لا يليق أبدا بحكمة جهابذة السياسة، ولا بمنظّريها، ولا بعلومها، لكنه بالتأكيد يليق بهذا العبث المجنون الذي دفعنا أعمارنا ثمنا له، والذي يتكثّف اليوم في صور الجوع والقهر التي تأتي من غزة، هناك حيث ترتكب جريمة العصر، وحيث الناس تموت وهي تتزاحم على رغيف الخبز!

يا لعار هذه البشرية!!