عن مازن حمادة وشجون أخرى

2020.02.28 | 00:55 دمشق

438.png
+A
حجم الخط
-A

ما تزال تثير عودةُ المعتقل السابق مازن حمادة إلى دمشق ردود أفعال كثيرة في أوساط السوريين، وبخاصة لدى مَن هم خارج سوريا، او مَن هم خارج سلطة نظام الأسد في الداخل السوري، ولا شك أن حادثةً من هذا النوع، سوف تثير صخباً متبايناً، ربما امتدّت تداعياته إلى معظم الأوساط السياسية والإجتماعية، إلّا أن تلك التداعيات تكاد تنحصر في مسألتين اثنتين:

الأولى: سخَطٌ عارمٌ مشفوع بمزيد من الشفقة والتحسّر على الضحيّة ذاتها، إذ إن مازن حمادة، طالما أبكى الكثير من السوريين، وهو يروي – من خلال وسائل الإعلام – وقائع يومياته في سجون الأسد، ويتحدّث بانفعال حارق عن الممارسات الوحشية التي طالت جسده وروحه في المعتقلات، وعن أشكال شتى من الإيذاء الجسدي والنفسي التي لا تقوى قلوب الكثيرين على احتمال سماعها، فكيف سيكون حال من مورست عليه؟

 إن الأثر الذي تركته مرويات مازن حمادة في وجدان ونفوس الكثير من السوريين، سيترك صدمة بالغة، ودهشة ممزوجة بمزيد من الاستغراب، حين يتفاجأ الجميع بعودة الضحيّة التي استحوذت على تعاطفهم، إلى دمشق، ليكون بين يدي جلّاديه من جديد. علماً أن ما مورس بحق مازن حمادة من جانب نظام الإجرام الأسدي، قد مورس في الوقت ذاته، بحق الكثيرين والكثيرات من السوريين، فمنذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، وحتى اللحظة الراهنة، ما تزال سجون الأسد تحتلّ الصدارة من حيث مستوى التوحّش والإجرام، وأن عدد الضحايا الذين كُتبت لهم النجاة، هو أقلّ بكثير من الضحايا الذين قضوا داخل السجون أو تمّ تغييبهم، أو حرقهم، أو دفنهم في مقابر جماعية في صحراء تدمر، ولعلّ هذا الأمر هو ما جعل قضية المعتقلين في سورية أولويّة وطنية، وليست مجرّد ملف إنساني طارئ.

الثانية: تشير توقعات الكثير من معارضي نظام الأسد، إلى أن عودة مازن حمادة ستكون مشروعاً استثمارياً لسلطات دمشق، بل صيداً ثميناً لأجهزة المخابرات التي ستعيد مازن إلى شاشات الإعلام، لا ليتحدّث عن مأساته ومأساة بقية المعتقلين في السجون السورية، بل ليدحض كل ما تحدّث به سابقاً، وليفضح – وفقاً لما سيلقاه من تلقين – كل الأكاذيب والمؤامرات الإعلامية التي تروجها المعارضة والجهات المعادية لنظام الأسد.

على أية حال، لقد قيل الكثير في الأسباب والدوافع التي تكمن وراء عودة الضحيّة إلى براثن جلّاده، وسواء أكانت هذه الأقوال والتحليلات نابعة من تعاطف، أو غير ذلك، فإن المؤكّد لدى جميع المقربين من مازن، أو ممّن عايشه عن قُرب، بعد لجوئه إلى هولندا، أن الرجل كان في حالة غير سويّة، تجلّت في سلوكه النفسي المضطرب، وتصرفاته غير المنضبطة، سواء حيال قوانين وأعراف الدولة التي منحته حق اللجوء، أو حيال الوسط الاجتماعي الذي يعيش في كنفه، كما كان يعيش حالة إحباط شديدة، فضلاً عن إدمانه على تعاطي المخدرات وما إلى ذلك، ممّا كان له كبير الأثر على قراره بالعودة إلى سلطات دمشق، كما تحدث آخرون عن دور غير منظور لبعض عناصر مخابرات الأسد، أو من كان بمقامهم، باستغلال الحالة المرضية لمازن، بغية التأثير عليه، وإقناعه بالعودة، ولعلّ هذه المسألة تدفعنا للوقوف، باختزال شديد، لدى ضربين من ردّات الفعل، عند نموذجين للمعتقلين والمعتقلات، الناجين والناجيات، من تغريبة السجون الأسدية:

1 – يرى كثير من المعتقلين والمعتقلات، ممّن أمضوا سنوات طويلة في سجون الأسد، وفاقت تضحياتهم جميع التصورات المعهودة، أن خيارهم في معارضة السلطة هو نتيجة موقف وطني بمواجهة سلطة مستبدة غاشمة، إلّا أنه يبقى خياراً شخصياً، لم يلزمهم به أحد، ولا يلزمون به أحداً، وبالتالي يجد هؤلاء في أنفسهم القناعة والاستعداد الكافيين للاعتقاد بأن ما لحقهم من أذى، هو نتيجة لموقف اتخذوه بكامل قناعتهم، ولا يجيز لهم هذا الموقف أن يمنّوا به على الآخرين، أو ينتظروا مكافأة على ما ضحّوا به، ووفقاً لذلك، يرى هؤلاء أن تضحياتهم الجسدية والنفسية جرّاء اعتقالهم ومواجهتهم للسلطة، لا تبيح لهم – بالضرورة – حقّ المطالبة بالتميّز عن الآخرين، أو تجيز لهم مشروعية حيازة التصدّر لأي حراك سياسي، إنطلاقاً من قناعة فحواها:( أنْ تكون مناضلاً ، لا يعني بالضرورة أن تكون قائداً سياسياً). ومن خلال تجربة شخصية، أتاحت لي ملامسة دواخل هذا النموذج من المعتقلين لسنوات طويلة، وجدت في معظم الأحيان، أن صلابة وتماسك مواقفهم لا تعود إلى قوّة وتماسك كياناتهم الحزبية وتجذّرها في الحواضن الشعبية، بقدر ما تعود إلى معين قيمي أخلاقي، يبعث على الاعتقاد بأن سلامة الموقف لا تستمدّ مقوّماتها من موازين القوى المادية، أو من مقدار المنفعة أو الضرر، وإنما تُستَمدُّ من سلامة الضمير، ونُبل القيمة التي يؤمن بها المرء. كما أتاحت لي التجربة، أن أجد أكثر هؤلاء، بعد الخروج من السجن، أنهم الأقدر على التصالح مع واقعهم المعاشي، وذواتهم، وكذلك الأقدر على التعاطي مع المتغيرات الاجتماعية. قد يكون من الصحيح، أن حالة غير قليلة من البؤس النفسي والمادي تحيط بهم، وأن رواكمَ من الوجع لا يمكن أن تغادر دواخلهم، ولكن ربما قدرتهم على تفهّمها، قد أتاح لهم شرطاً لا بأس به لمقاومة تداعياتها.

2 – في موازاة النموذج الأول للمعتقلين، ثمة نموذج آخر، يرى – بوعي أو بدون وعي – أن ما قدّمه من تضحيات في مواجهة السلطة إنما من أجل قضية لا تمسّه كفرد فحسب، وإنما هي قضية عامة، وبالتالي يجب أن تكون معاناته وتضحياته، ليست موضع احترام الجميع فحسب، بل موضع اهتمامهم أيضاً، كما يرى كامل المشروعية لمفردات شقائه أن تكون جسراً يوصله إلى صدارة المشهد، سواء أكان المشهد سياسياً أم عسكرياً، وذلك إبان أي حراك مجتمعي أو ثورة شعبية، وبالتالي، فهو سيبقى ساخطاً على الدوام، مسلوب الاعتبار، ما لم يجد نفسه في الموقع الذي يوازي تضحياته، كما يتخيّل ويعتقد.

أميلُ إلى الظن، أن حالة الإحباط الشديد التي أصابت مازن حمادة – كما يؤكد معظم أصدقائه – والتي كانت إحدى عوامل الخلل في سلوكه، ذات صلة بسمات النموذج الثاني الآنف الذكر من جهة، وكذلك ذات صلة بكيفية تعاطي وسائل الإعلام – المحلية والدولية – مع مأساته كمعتقل مورست بحقه أنواع من التعذيب نادرة الوحشية، و إلى طبيعة تصوّره عن الماهيّة الوظيفية لوسائل الإعلام تلك من جهة أخرى، فحين تقبل كبرى الفضائيات وأكثرها انتشاراً وشهرةً إلى الضحيّة، وتحاول تسليط الضوء عليها، فذلك جانب مهني إعلامي في قسم كبير منه، ولا يعني بالضرورة تعاطفاً أو انحيازاً إلى القضية التي اعتقل مازن لأجلها، وكذلك احتفاء وتودّد وسائل الإعلام ، قبلَ، وأثناء التعاطي مع الضحية، يختلف كلياً عمّا بعده. ما لم يدركه مازن، أن مروياته، وسرديات شقائه، أمام وسائل الإعلام ذات أهمية كبيرة بالنسبة إليه، وإلى أصحاب قضيته ومن يتعاطف معها، ولكنها بالنسبة إلى وسائل الإعلام لن تكون أكثر من مادة إعلامية غنيّة المحتوى، ذات مغزى نفعي في معظم الأحيان، وما لم يدركه مازن أيضاً، أن الإقبال الإعلامي عليه والاهتمام به كمعتقل، والاحتفاء الزائد بمصدر المعلومة، لن يبقى منه سوى المادة الإعلامية، وسيبقى مازن في أرشيفهم الإعلامي مجرّد مصدر معلومة لا أكثر، وبعد ذلك، فلتذهب الضحية في سبيلها، وتواجه قدرها بذاتها.

ما قدّمه مازن للقضية السورية كثير وكثير، سواء في شهادته أمام المحكمة الدولية في لاهاي، أو في غيرها من المحافل الحقوقية الدولية، أو حتى في مقابلاته مع وسائل الإعلام، إذْ أسهم كل ذلك في فضح ممارسات نظام الإجرام الأسدي بحق مئات الآلاف من المعتقلين السوريين، كما أسهم في  دفع قضية المعتقلين إلى أن تكون حاضرة على الدوام في الرأي العام، ولكنّ اعتقاد مازن بأن هذا المسار النضالي سوف يُترجم إلى وقائع مادية تعود إليه بالنفع الوفير، وتمكّنه من الوصول إلى المكانة التي يتخيّل أنها توازي تضحياته، فذلك هو الوهم القاتل.