عن إرهاصات الدولة الوطنية

2021.08.25 | 06:20 دمشق

thwrt_alswryyn.jpg
+A
حجم الخط
-A

من الخطأ الفادح أن يُعزى فشل الولايات المتحدة في إقامة ديمقراطيات شرق أوسطية على أنقاض أنظمة شمولية بعد أن ساهمت في تقويضها كما الحال في العراق وأفغانستان، إلى المقاومة الشعبية لما اعتُبر غزواً أميركياً مباشراً  وحسب في غير مكان من العالم الإسلامي والعربي تدخّلت فيه أميركا، بقدر ما يتعلّق بطبيعة التركيب الإثني، والطائفي، والعشائري، الذي يشكّل النسيج الاجتماعي للدول العربية، والذي تعرّض تحت ضغط الدولة القومية المدعومة بسلاح العسكر في غير بلد عربي إلى التمييع وإذابة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والتاريخية لمكوناته التي نشهد صحوتها اليوم بُعيد الثورات العربية التي خرجت أول ما خرجت ابتغاء للحرية والكرامة والعدالة الإنسانية في حِلٍّ من أية نزعة طائفية أو تمييزية بين أبناء شعب واحد ثائر، وانتهت - للأسف الشديد - متكوّرة حول نفسها خوفاً مما بدأ يتشكّل من بديل سياسي للحكم "القومجي" العسكري، بديلٍ ينحرف بالتركيبة الاجتماعية المتآلفة إلى غياهب الفصل المذهبي.

وفي عودة سريعة إلى التاريخ المعاصر لمنطقة الهلال الخصيب سنرى أن مسطرة الدبلوماسي الفرنسي، فرانسوا جورج بيكو، والبريطاني، مارك سايكس، التي رسمت مناطق النفوذ الأوروبي في جسم الخريطة العربية العام 1916 إثر الحرب العالمية الأولى، والتي جاءت نتيجة تفاهم سرّي بين فرنسا والمملكة المتحدة، وبتصديق من الإمبراطورية الروسية في ذلك الوقت بهدف اقتسام الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، فلم تقدّم إلى أبناء المنطقةِ الخارجةِ من أقدارٍ سوداء رسمت ظلالها الكئيبة مئات السنوات من الاستعمار المتعدّد الأطراف سوى خريطة ملتبسة صاغها مزاج الرجلين وخطّت حدوداً مفترضة بين "الدول المستقلّة" التي كان عليها أن تتطوّر باتجاه دول مدنية تحكمها نخب وطنية تدعم الحريات وترعى التعدّدية  وترجّح حكم الشعب.

في سوريا على سبيل المثال، لم ترَ الدولة الوطنية النور إلا لفترة وجيزة جداً إثر استقلال سوريا عن الانتداب الفرنسي، وهي فترة حكم شكري القوتلي، الذي أطاح بها انقلاب العقيد حسني الزعيم

أما الدولة الوطنية التي تشكّلت في غير بلد عربي إثر الحرب العالمية الثانية والاستقلال عن الاستعمار الأوروبي، فلم تنعم إلا في فترات قصيرة جداً من عمرها بحكم وطني مستقّل مدني وتعدّدي.

في سوريا على سبيل المثال، لم ترَ الدولة الوطنية النور إلا لفترة وجيزة جداً إثر استقلال سوريا عن الانتداب الفرنسي، وهي فترة حكم شكري القوتلي، الذي أطاح بها انقلاب العقيد حسني الزعيم في 30 مارس/آذار 1949، وهو الانقلاب الأول من نوعه في العالم العربي، وقد شكّل سابقة سياسية، ومهّد لسلسلة من الانقلابات وصلت في عام واحد إلى ثلاثة، حيث تلا انقلاب الزعيم على القوتلي وحكومته الوطنية انقلاب العميد سامي الحناوي في 14 آب/ أغسطس 1949 الذي سيطر عسكرياً على السلطة وقام بإعدام حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي. أما الانقلاب الثالث في العام نفسه فهو انقلاب العقيد أديب الشيشكلي في يناير/ كانون الأول 1949.

هكذا تطاولت يد العسكر على بيت الحكم في دمشق حتى وصول آل الأسد إلى السلطة بقوة السلاح أيضاً، وإخضاع سوريا من قِبَل، حافظ الأسد، ومن بعده ابنه، بشار الأسد، لأشرس وأطول عملية اغتصاب للسلطة وتهديم للمقدّرات واستبداد للشعب، عملية مدمّرة آلت إلى حملة قتل وتهجير جماعي لملايين من السوريين إثر اندلاع الثورة السورية الماجدة في آذار 2011، وكذا فتح بوابات البلاد للمرتزقة الذين قدموا من كل حدب وصوب على شكل مجموعات تكفيرية متطرّفة من أمثال داعش، أو على شكل ميليشيات غريبة استقدمهم في بادئ الأمر المقتول، قاسم السليماني، بهدف دعم قوات بشار الأسد المتهاوية في غير جبهة.

أما الصحوة الوطنية لاستعادة الحكم المدني الديمقراطي أي "ربيع سوريا"، والذي تجّلى في الخروج الكبير لشبابها ونخبها السياسية منذ آذار 2011 على هيئة ثورة شعبية جامعة وجامحة انتقلت من درعا جنوباً إلى دمشق ثم حمص وحلب وصولاً إلى قامشلي ودير الزور في أقصى الشمال الشرقي، فقد وقعت فريسة غضّة بين براثن الغزو الإيراني مدعوماً باستعلاء روسي عسكري وأمني يهدف إلى إطالة عمر النظام في العاصمة دمشق مهما كلّف الأمر، بينما تكفّل النظام بالترويج  لأمر أن البدائل عن حكمه تنحصر في صفوف الجماعات المتطرفة والمدرجة على قائمة الإرهاب الدولي.

ما هو مستقبل المنطقة بأسرها في ظل إخفاق الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية في إدارة الصراع لما فيه مصالح الشعوب التوّاقة للتحرر؟

السؤال الملحّ الذي يطرح نفسه اليوم لماذا لم تتمكّن النخب الوطنية منذ عهد الاستقلال الأول من تمكين حكم مدني ديمقراطي تعدّدي ضمن حدود الدولة التي رسمتها "المسطرة" وبعض التضاريس الجغرافية؟ وكيف أخفقت دول الربيع العربي في تحقيق أحلام ثورتها وثوارها إثر العظيم من التضحيات في الأرواح والأموال وحق الأمان المعيشي والاستقرار؟ وما هو مستقبل المنطقة بأسرها في ظل إخفاق الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية في إدارة الصراع لما فيه مصالح الشعوب التوّاقة للتحرر وقد دخلت أراضيها لتدعم حكم القانون والعدالة فيها كما تعلن واشنطن باستمرار؟ أتساءل!