عن أمين العباءة المتوارثة

2021.10.09 | 07:24 دمشق

ab1e8838-77b5-4741-be5c-be2009ce61c7-s7d7x.jpg
+A
حجم الخط
-A

صمتَ أول أمس بعض الصراخ الصاعد من منبر مسجد بني أمية الكبير بقلب دمشق بعد أن غادرها بحكم النهاية الإلهية بشير عيد الباري مفتي العاصمة، وحامل العباءة الشهير الذي طالما ألبسها لآل الآسد وكأنها إرث حق لتلك العائلة التي ما زالت تحكم كرسي قصر المهاجرين بالحديد والنار والحلفاء.

صُلي على الباري في مسجد حافظ الأسد بمنطقة المزة حيث كان آخر خطبائه وأئمته، وهذا له مدلوله المهم في انتماء الشيخ الموالي حتى العظم، ودلالة على قيمته لمن والاهم وبرر لهم بقاءهم وقتالهم لكل سوري قال (لا) ليد الاستبداد البعثية، ونعم لحرية الشعب وانعتاقه من هيمنة البعث والعائلة.

لم يترك الباري مناسبة للنظام إلا وكان في مقدمة الداعمين والمؤيدين لها، ولم يوفر كلمة في امتداح الأسد بالرجل المؤمن الذي منّ الله به على سوريا، وممتدحاً أخلاقة الحميدة وعقله الراجح ودينه الراسخ: (أن الله منّ على سوريا أن قيد لها رئيساً موفقاً في خطاه، في كلامه، في خطاباته، في سلوكه، في أعماله، إنه سيادة الرئيس الدكتور بشار حافظ الأسد، الذي منحه الله عقلًا نيراً وإيماناً راسخاً بدينه وعقيدته، وحباً لشعبه، يسعى بجهده لإسعاد شعبه).. أو بعد هذا الولاء ولاء، وبعد هذا النفاق نفاق؟.

وشارك في إعادة انتخاب الأسد مع ثلة من علماء الدين قال فيها: (كانت نتيجة انتخاب الرئيس بشار الأسد السابقة (عام 2014) رفعة هذا الوطن وعلوه، واليوم سنقول نعم، نعم كتبناها بكل قلب ومن كل قلب وسنكتبها بكل يد وسنبايع بيعة الصدق).

كان على السوريين أن ينتظروا طويلاً -وباستثناءات قليلة- خروج أحد من المؤسسة الدينية عن هيمنة السلطان، واعتلائه لمنبر الحق ودفع الظلم

ولم يكن الباري ببخيل في ولائه للأسد الأب، ولم يتأخر في مديحه مرة واحدة، ومنذ توليه افتاء دمشق عام 1984-  تلك السنة الحاسمة في صراع الأسد مع خصومه من الإخوة (رفعت وسرايا الدفاع) حيث كانت أول وآخر محاولة انقلاب من عسكر البعث وقياداته القريبة، والتي انتهت بإبعاد رفعت الأسد وحاشيته إلى فرنسا محمّلين بمئات الملايين من الدولارات والآثار السورية المنهوبة - منذ هذه اللحظة التاريخية في عمر البلاد دخل عبد الباري وسواه من مشايخ السلطان في عهدة السلطة، وباتوا خط الدفاع الوجداني عن سلوكها، وتبنوا خطابها، وبنوا بهدوء سلطة دينية مقربة من القصر حاضرة في كل ولائمه وويلاته.

منهم من استولى على أموال الزكاة، ومن تخصص بمواكب الحج ومنافعها، ومنهم من اختص بإدارة المساجد وصناديق التبرعات

لذلك كان على السوريين أن ينتظروا طويلاً -وباستثناءات قليلة- خروج أحد من المؤسسة الدينية عن هيمنة السلطان، واعتلائه لمنبر الحق ودفع الظلم، وهكذا توالى مشايخ المؤسسة طوال خمسين عاماً على حكم المؤسسة الدينية التي توارثت الولاء، وتفننوا في امتداح السلطة والثناء عليها، والدعاء لها في المساجد كأولوية في كل صلاة، وأفتوا بتكفير من يخرج عليها وطعنه وتكفيره، ومقابل ذلك كان لهم الدلال فيما يشتهون، ومنهم من استولى على أموال الزكاة، ومن تخصص بمواكب الحج ومنافعها، ومنهم من اختص بإدارة المساجد وصناديق التبرعات، وتحالفوا مع تجار المدينة، وسمحوا بتقبيل الأكف والأيدي ومدّوها حيث تستطيع الشفاه ملاحقة رضاها.

أكبر شاهد على فساد تلك المؤسسة كان جامع (يلبغا) الكبير الذي لم ينته بناؤه حتى الآن وسط دمشق، وشهدت السنوات العشر الأولى من حكم الأسد الابن لغطاً كبيراً حول استثمار هذا البناء الضخم الواقف (على العضم) كعين عوراء، ومدى تدخل الأوقاف في إحباط مشاريع استثماره وإنهاء العمل به، والرشاوى التي تم طلبها من المستثمرين الخليجيين حينذاك سواء من مديرية الأوقاف أو محافظة دمشق، وأما مساجد الريف فلها حكايات العلن حيث اليد الطولى للأوقاف ورجالاتها، وأما الأملاك الوقفية فلها حديث قد يتبع.

من بين ظهراني هؤلاء خرج مأمون رحمة الذي تناوب مع الباري مدة الخطبة في المسجد الأموي، وهو من تفوق على كل المنافقين ممن سبقوه، وامتدح السلطة أكثر مما تشتهي، وزاد في ذلك امتداحه للغزاة والمجرمين، ولصوص السوق المتوحشة حتى كرهه الموالي قبل المعارض، فأي إثم يدركه هؤلاء ذات يوم موعود؟..