عندما يصبح الموز رمز اضطهاد شعب

2021.10.23 | 07:11 دمشق

thumbs_b2_3fa78df4d64b6b9649ac819cec848c40.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن أمام من شاهدوا فيديو الرجل التركي -الذي يشكو من عدم قدرته على شراء الموز بسبب السوريين اللاجئين في إسطنبول- إلا أن يستذكروا معاناتهم طوال خمسين عاماً من سطوة البعث الاشتراكي على كامل حياتهم، وأن يعيدوا استحضار علاقتهم مع الموز الذي حرموا منه في الثمانينيات كفاكهة فوق طاقتهم، ورمزاً لنضال البعث في مواجهة الحصار الغربي الذي عاشته دولة الصمود والتصدي.

كان الموز في ثمانينيات القرن السابق مرتبطاً في أذهاننا نحن اليافعين بالعسكري المموه القادم من بلد الحريات والموت.. بلد الخبز المحلى بالسكر وكراتين الموز الصومالي التي يتم تهريبها بأسعار خيالية، وحيث لا يمكن لمدني أن يجرؤ على نقلها إلى وطن الصمود، ووحده فقط العسكري في قوات الردع الذي يحملها علانية كأيقونة ومكافأة على انتصاراته في معركة فض القتال بين المتصارعين اللبنانيين الذاهبين إلى حتفهم.

اختلطت مفاهيم الجوع والكرامة والوطنية لتصنع سورياً جائعاً على قيد الحياة.. سورياً يشبع من هول الشعارات وصور القائد وعائلته المناضلة

مرحلة الصمود هذه خلقت مواطناً سورياً قانعاً بما يبقي البشر على قيد الحياة دون أمل، وأصبح الموز أحد رموز الإذلال والرضا بالأقدار الجديدة التي جاءت مع وصول البعث إلى السلطة حيث لا صوت يعلو سوى صوت الصمود والمعركة، وأن هذه الكماليات كالسمنة والمناديل والزيت والشاي لا توقف هذا المدّ الثوري الجامح لتحرير الأرض من الصهاينة والفاسدين المحليين كالإقطاع والرأسمالية العميلة، وهكذا اختلطت مفاهيم الجوع والكرامة والوطنية لتصنع سورياً جائعاً على قيد الحياة.. سورياً يشبع من هول الشعارات وصور القائد وعائلته المناضلة، ويهتف خلف البعثيين الوصوليين بالروح وبالدم نفديك.

اكتشف السوريون مع رياح التغيير العاتية في بداية القرن الجديد كيف يكون طعم الموز الذي ترميه القرود في أدغال أفريقيا البائسة، ومعها اكتشفوا كيف يكون رأس وعقل الإنسان الذي لا تحكمه قناة تلفزيونية توقف بثها في منتصف الليل، وكيف يعيش البشر خارج هذه الجزيرة المعزولة، وأن هناك كوريا جنوبية متحضرة غير تلك التي تمثّل البعث تجربتها، وأن الطفل يمكنه ارتداء ألوان جميلة موحدة في طريقه إلى المدرسة لا تلك التي تجعل منه مقاتلاً صغيراً محباً للشهادة في سبيل الوطن فهناك من يحبون الحياة أيضاً، وأن الموز أصناف مختلفة، وبإمكان السوري أن يتذوقها حتى الملل.

لكن السوري المقدّر عليه الشقاء لم يتمكن من متعته حتى آخرها، ولتجعل منه العشرية الأخيرة أيقونة موت، وعادت أيام الحصار إلى بيته أشد قسوة وهذه المرة لم يكن الصهاينة والإمبريالية العالمية وراءها بل من كان يرى فيهم حماته أولئك الذين كانوا يأتون بالموز عبر الحدود، وهكذا انتقل من بيت لخيمة، ومن حلم الموز إلى أكل ورق الشجر، ومن داخل الحدود إلى بيوت الجيران الذين يعيدون عليه اليوم سيرة الموز المقدس.

يخيط العالم بتفاهماته جسد سوريا الجديدة المرقط طوائفاً وإثنيات وولاءات.. أما الموز فهو رمز اضطهاد شعب يبكي ويضحك

صار السوري سبباً لفقر اللبناني صاحب الخبز المحلى بالسكر، وسبباً في عدم توظيف ابنه المرأة التركية- التي تظهر بالفيديو- والتي تخرجت منذ خمس سنوات، وسبباً في غلاء إيجار البيوت في إسطنبول وليس جشع التركي وانتهازيته وحبه للمال، ولا تنسى المرأة في أن تذكر الشابة السورية التي تنبري لنقاشها بأموال الدولة التي يتم صرفها على السوري الهارب من الحرب، وأما الحقيقة فهي أن التركي يخرج من (البيم) بكيس يحوي موزة واحدة، ومن الفرن برغيف خبزه المقطع.. وهنا فارق الثقافة وطريقة الحياة وليس هوس السوري بموز الأتراك.

التركي الساخط اليوم هو مثل السوري الملعون والمرمي غريباً، وما هو سوى لعبة سياسة وانتخابات تدفع به إلى الترحيل الذي بات سيفاً وهاجساً.. فيما يخيط العالم بتفاهماته جسد سوريا الجديدة المرقط طوائفاً وإثنيات وولاءات.. أما الموز فهو رمز اضطهاد شعب يبكي ويضحك.