عندما كان أبو فستوك (كَتْبَاناً)

2019.11.18 | 17:08 دمشق

1923741274-crop.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما زال في سيرة المخبر الذي أسميناهُ اصطلاحاً أبا فستوك بعضُ الفصول التي أزعم أنها طريفة. الجانب الأكثر طرافة في شخصيته، برأيي، هو العَلَنية. من يوم أن نزل علينا - نحن أدباء إدلب الدراويش - بما يشبه المَظَلّة، ولسانُ حاله يقول لنا: أنا مُخبر هكذا، بوضوح، وعينك عينك، وسأضَعُكم، أنتم وإبداعاتكُم الشعرية والقصصية والروائية والإذاعية والتلفزيونية، على قفا "صرمايتي"! وكان يُجاهر، كما أعلمتُ حضراتكم سابقاً، بعلاقاته الأمنية في إدلب ودمشق، وبمعرفته الوطيدة برئيس اتحاد الكتاب العرب، وأعضاء المكتب التنفيذي، ورؤساء فروع الاتحاد في قُطرنا العربي السوري الصامد في وجه الاستعمار والصهيونية والإمبريالية والرجعية.

هذه العلنية الفاقعة مَكَّنَتْه، حينما كان مُفَرَّغَاً في فرع اتحاد الكتاب العرب بإدلب، من تخصيص طاولة وكرسي بَرَّام لـ "مساعد أول في الأمن العسكري"، وهذا المساعد أول صار يداوم في فرع الاتحاد أكثر مما كان "أحمد بيه المشاري جعدار" يداوم في المصلحة التي حكى عنها الأديب الكبير أحمد رجب في قصته "الوزير جاي" من مجموعته القصصية الشهيرة "كلام فارغ"، ووالله لولا المسدسُ الذي كان يضعه المساعد أول على خصره، وجهازُ اللاسلكي ذو الهوائي المعدني الطويل الذي يلتقط الاتصالات الهاتفية "السيناو"، لظنه القادمُ من خارج المبنى أديباً، أو فناناً تشكيلياً، أو مخرجاً مسرحياً.. إلخ.

ومن العلامات البارزة في شخصية أبي فستوك أفندي هو النظر إلينا - نحن أدباء إدلب الدراويش - على أننا أغبياء، ومجاذيب، أو كما كان يقولُ شاعرُنا الراحل محمد شيخ علي (مخطتنا زالّة).. ففي ذات مرة، على سبيل المثال، كنتُ مدعواً لحضور أمسية أدبية في مقر اتحاد الكتاب العرب، ووصلتُ المكان في وقت مبكر بعض الشيء، وبينما أنا أصعد الدرج، إذ سمعتُ صوت أبي فستوك ملعلعاً في الداخل، وحينما وصلتُ وجدتُ في ضيافته فتاتان من اللواتي يتعاطين الكتابة، وهُما في وضعية توحي بأن أبا فستوك قد ضَبَعَهُما (أي سيطرَ عليهما نفسياً وشعورياً)، فكَشَّتَا وخَنَسَتا، وراحتا تنظران إليه بإعجاب ورهبة.

بعدما ألقيت السلام سألته: خير أخي أبا فستوك؟ ما الذي جرى؟     

ومن العلامات البارزة في شخصية أبي فستوك أفندي هو النظر إلينا - نحن أدباء إدلب الدراويش - على أننا أغبياء

فقال لي بالزخم نفسه: يا أخي هدول المخابرات أيش مفكرينَّا؟ تصورْ يا أبا مرداس، يتصل بي واحد من العناصر ويقول لي إنه يريد أن نزود الفرعَ الذي يتبع له بصور "فوتوكوبي" عن الأعمال الأدبية التي يلقيها ضيوفُنا الأدباء في الأمسيات! قلت له مستحيل، نحن في اتحاد الكتاب العرب لنا استقلاليتُنا، ولا يحق لأحد مراقبتنا مهما كلف الأمر، وقلت له: انظر، أنا لا أسمح لبشر في العالم أن يُشْعِرَ ضيفَنا الأديب الذي يشرفنا بإلقاء إبداعه في هذا الفرع بأنه مُرَاقَب.

أقول لكم الصدق؟ على الرغم من تاريخي الأدبي الطويل، وحضوري المستمر في الصحافة والتلفزة والكتابة الإذاعية منذ نحو ثلاثين سنة، والشهرة التي حققتُها، بقيتُ أخاف من أبي فستوك، خوفاً استثنائياً.

المواطن السوري يخاف من المخابرات، بالطبع، وحينما يقوده حظه العاثر إلى لقاء عنصر مخابرات تراه متيقظاً، مستنفراً، عَيْنُهُ في الطَبَقْ - على قولة المثل - وأُذُنُهُ لمن زَعَقْ، دائمَ الخشية من أن يزل لسانُه بجملة خاطئة، أو بجملة ملتبسة يحتمل أن يفهمها العنصر على نحو خاطئ، فَـ (يَجِي بِأجله)، ويجعله عبرة لمن يعتبر، ولذلك يكثر هذا المواطن، أثناء اللقاء، من استخدام العبارات العامة من قبيل، الله يسترنا، الله يحمي هالبلد، الله يفرّج، وإذا مرر العنصرُ اسمَ الرئيس في سياق حديثه ينبري المواطن ليقول الله يخلي لنا إياه، الله يطول عمره، الله يقويه ويعينه على المؤامرات والمتآمرين.. وحينما ينفضُّ اللقاء على خير، يتنفس الصعداء ويخاطب المواطنُ العنصرَ المُدْبِر قائلاً: .. أختك على أخت السيد الرئيس يا عرص. نشفت لي دمي.

هذه الكلام ينطبق على المواطنين السوريين بشكل عام، وأما خوفي أنا من أبي فستوك فكان مختلفاً جداً، ومعقداً، ومُرَكَّبَاً، باعتبار أن أبا فستوك لا ينقل الحديث الذي يُقال أمامه كما هو، وإنما يخترع كلاماً وأحداثاً ومواقف ما أنزل الله بها من سلطان، مثلما فعل يوم لفق لي تهمة إثارة الفوضى في المركز الثقافي بمدينة بنش حينما قرأت قصتي "وقائع ما جرى تحت البطانية"، زاعماً، في تقرير أكبرَ من ملحفة اللحاف كتبه لفرع الأمن العسكري، أن قصتي خدشت حياءَ "البنانشة" من الجنسين اللطيف والخشن، وأن النسوة اللواتي كن حاضرات خرجن من القاعة احتجاجاً عليّ، والرجال (الزلام) تنمروا علي وكادوا أن (يدعسوني قتلة)، ولكن ربك ستر.

حينما أعلمني أبو فستوك بموقفه الشجاع، وتصديه لعنصر المخابرات بقوة، حضرت في داخلي، بسرعة هائلة، شخصيتان، شخصية الكاتب الساخر "المسخرجي"، وكدت أن أظهرها إلى العلن وأقول لأبي فستوك باستهزاء: عظيم يا أبو الفسّ (اسم الدلع من أبي فستوك) ما قصرتْ بهالعنصر الكلب، في المرة الثانية إذا اتصلْ فيك وطلبْ مِنَّكْ نسخْ من قصص الأدباء حَشِّكْ له على أخْتُه، وابزوقْ في وِجُّهْ، وقلْ لُه: تضرب في شكلك أنت ومعلمك رئيس فرعك..، وشخصية رب الأسرة ذي العيال الذي ينطبق عليه قول النبي محمد: الوَلَدُ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَة. وهذه الشخصية جعلتني أضرب على جبيني وأقول: أف! نسيت شغلة ضرورية. وخرجت من الغرفة ثم خرجتُ من فرع الاتحاد وأنا أتلفت مثل رجل مهدد بالضرب، وما ابتعدتُ سوى أمتار قليلة حتى التقيتُ بالصديق تاج الدين الموسى القادم لحضور الأمسية. قال لي: إشبك؟ ليش ماشي مسرع وعَمْ تتلفت لورا. قلت له: اليوم أبو فستوك "كَتْبَان". استغرب وقال لي: كَتْبَان؟ قلت له: نعم. يعني إيده عم تحكُّه ع كتابة تقرير بحق شي حدا، يعني مثل الكلب لما يكون كَلْبَان.

وتأبط أحدنا ذراع الآخر، وغادرنا المكان.